طباعة

 

 

   

الملحق الاستراتيجي

 

نشرة شهرية مترجمة عن مراكز البحث الاسرائيلية تصدر في منتصف الشهر عن:

ترجمة "المصدر" عطا القيمري - القدس ت و ف: 5829882 ص.ب: 51367

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

 www.almasdarone.com  

 

      

السنة الرابعة عشر

                                                                               الملحق 17 - للعدد 163 /ايلول /2013                                                

 

  

في هذا العدد

 

يستخلص شموئيل ايفن في مقالة عنوانها "عشرون عاما على اتفاق اوسلو: دروس لاسرائيل" دروسا في المجال الاستراتيجي اساسها تبني التفكير "من النهاية الى البداية" في كل مفاوضات لاحقة لحل النزاع مع الفلسطينيين وذلك كي يعرف الطرفان ما الذي سيتوصلا اليه في نهاية المسيرة حتى ولو تم تنفيذ ذلك على مراحل ووفق جداول زمنية محددة.

 

ويكاد يتوصل الباحث الاستراتيجي شلومو بروم في مقال يقيم فيه مسيرة اوسلو على مدى العشرين سنة الاخيرة الى ذات الاستنتاج في أن الاساس الذي بني عليه الاتفاق كان صحيحا ولكن اخطاء جسيمة وقع فيها الطرفان أدت الى هذه النتيجة. ويتعلق الامر في نهاية المطاف بكيفية تعريف الاهداف الاسرائيلية. ولانه توجد خلافات في اسرائيل حول الهدف النهائي للمفاوضات فانه يصعب تحديد مدى نجاح مسيرة اوسلو. فاذا ما قبلت اسرائيل فكرة الدولتين حقا فانها يمكنها ان تتوصل الى اتفاق يضمن في الاطار العام مصالحها الحيوية ويرضي الفلسطينيين بالاقتراب الى الحد الادنى الذي يقبلوه.

 

وكتب البروفيسور إيال زيسر في مقالة عنوانها "الازمة السورية – صراع بلا حسم – مَثَلُ النمل والفيل" بيّن فيها بدء الانتفاضة الشعبية على نظام بشار الاسد في سوريا وأسبابها والمناطق التي جاءت منها وهي المناطق القروية والريفية ذات الأغلبية السنية. وتحدث عن أن المجموعات المسلحة التي تقاتل النظام السوري هي مجموعات متفرقة قسمها في ثلاث مجموعات أو ثلاثة معسكرات رئيسة لا يوجد بينها وحدة واتصال يجعلها تقاتل النظام صفا واحدا، وذكر بعد ذلك أن النظام قد نجح الى الآن في مواجهة هذه المجموعات التي شبّهها بالنمل في مواجهة الفيل ونجح ايضا في الابقاء على دعم الأقليات وجزء من السكان السوريين السنيين وهو أمر قد يُتيح له أن ينتصر في المعركة ايضا اذا استطاع أن يجعل المتمردين ييأسون من الاستمرار في القتال

 

وأخيرا ترجو أسرة "المصدر  الاستراتيجي" لقرائها أكثر القراءة فائدة ومتعة.

 

          "المصدر"

 

 

*  *  *

 

 

عشرون عاما على اتفاقات اوسلو: 1

 

دروس لاسرائيل

 

بقلم: شموئيل ايفن

 

مقدمة

 

          اتفاقات اوسلو هي سلسلة من الاتفاقات التي وقعتها اسرائيل مع م.ت.ف والسلطة الفلسطينية ("الفلسطينيين") في التسعينيات. أبرزها هو "اتفاق المبادىء لتسوية انتقالية من الحكم الذاتي" (اتفاق اوسلو او اتفاق اوسلو أ) الذي وقع في واشنطن في 13 ايلول 1993. وقد صمم هذا الاتفاق استمرار المسيرة كلها وفي اعقابه وقعت اتفاقات اخرى بينها "الاتفاق الانتقالي الاسرائيلي – الفلسطيني بشأن الضفة الغربية وقطاع غزة" (اتفاق اوسلو ب) في 28 ايلول 1995.

 

          لقد بثت اتفاقات اوسلو آمالا عظيمة في اسرائيل، في أن تتبلور السلطة الفلسطينية الى سلطة متينة ومجردة من السلاح، تقيم معها علاقات سلام. وهكذا يضمن وجود اسرائيل كدولة يهودية وديمقراطية، ويتجسد في منطقتنا عصر من "الشرق الاوسط الجديد". والى ذلك، رفض في حينه زعماء اسرائيل – رئيس الوزراء اسحق رابين ووزير الخارجية شمعون بيرس – امكانية أن تؤدي اتفاقات اوسلو الى دولة فلسطينية مستقلة، تقسيم القدس والتنازل عن السيطرة الاسرائيلية في غور الاردن في اطار التسوية الدائمة مثلما طلب الفلسطينيون. أما المعارضة في اسرائيل والتي وقف على رأسها بنيامين نتنياهو، ومسؤولون كبار في شعبة الاستخبارات فلم يكونوا شركاء في توقعات رابين وبيرس، وحذروا من عدم ملاءمتها مع الواقع. واعتقدت التقديرات الاستخبارية بان الفلسطينيين مصممون على اقامة دولة فلسطينية مستقلة، عاصمتها القدس الشرقية في المرحلة الدائمة، ولن يوافقوا على أي تنازل في المرحلة الانتقالية تعرض هذا الهدف للخطر. وتناول رابين وبيرس باستخفاف هذه التقديرات بدعوى أن الاستخبارات سبق أن فشلت في الماضي في التقديرات عن الحرب والسلام.

 

          وانقطعت المفاوضات السياسية مع الفلسطينيين في الفترة بين كانون الثاني 1993 – وكانون الثاني 2001 (لاحقا: "مسيرة اوسلو") في مؤتمر طابا في كانون الثاني 2001. وفي اختبار النتيجة لم تحقق مسيرة اوسلو اتفاقا دائما، ادت الى أزمة توقعات ومواجهات مضرجة بالدماء في انتفاضة الاقصى التي شرع فيها الفلسطينيون، وتركت اسرائيل في وضع استراتيجي دون بالنسبة للوضع الذي سبقها. ومنذئذ، وان كانت اتفاقات اوسلو سارية المفعول من ناحية قانونية وسياسية، في نظر اسرائيل، الا انها مطبقة جزئيا ويعمل الفلسطينيون على نيل اعتراف بدولة فلسطينية حتى دون أن يكون ذلك من خلال المفاوضات. واجرت اسرائيل من جهتها انسحابا احادي الجانب في قطاع غزة الذي تسيطر عليه منذ 2007 حماس التي لا تشارك في الاتفاقات. ومنذئذ وحتى الان استمرت على نحو متتالي المسيرة السياسية بين اسرائيل والفلسطينيين وبذلت جهود لدفعها الى الامام، لم تنجح حتى الان.

 

          في هذا المقال يعرض تحليل سلوك اسرائيل في مسيرة اوسلو في عهد حكومتي رابين وبيرس (كانون الثاني 1993 – حزيران 1996) في المجال الاستراتيجي – الاداري. وفي نهايته تعرض دروس للمستقبل. لا يستهدف هذا المقال تقديم صورة كاملة عن اسباب فشل المسيرة، وهو لا يعنى بتوزيع المسؤولية عن النتيجة بين الفلسطينيين واسرائيل. من زاوية نظر اسرائيلية – ادارية، حتى لو كان ممكنا ان نرى بالفلسطينيين مسؤولين بقدر كبير عن الفشل أو اذا كانت منذ البداية فجوة كبيرة جدا بين المواقف، يطرح السؤال، كيف علقت اسرائيل في المسيرة وكيف ادارت شؤونها في اثنائها. ومع ان مسيرة اوسلو حظيت بتغطية مفصلة في الكتب التي كتبها المشاركون في المسيرة، ولكنه لم يتوفر أي تقرير من جهة رسمية حول مسائل مثل: كيف تحددت اهداف اسرائيل في المسيرة، أي استراتيجية اتخذتها كي تحققها، ماذا كانت عليه سياقات اتخاذ القرارات، هل اتفاق اوسلو كان مخاطرة محسوبة ام رهان، كيف اديرت المخاطر في المسيرة، كيف تصدت اسرائيل للازمات، كيف حاولت تقليص الاضرار وهكذا دواليك. وهذا المقال كفيل بان يثير الفكر حول هذه المسائل.

 

          سلوك اسرائيل في مسيرة اوسلو: مسائل مركزية

 

          اقامة قناة مفاوضات خفية عن رئيس الوزراء. كانت بداية مسيرة اوسلو في اقامة قناة خفية في اوسلو في كانون الثاني 1993. فقد قال نائب وزير الخارجية في حينه يوسي بيلين: "عرفت انني اذا بلغت بيرس بذلك، فانه سيكون ملزما بوضع رابين في الصورة، وخفت ان يطلب رابين وقف الخطوة قبل ان تبدأ". وفي اثناء المفاوضات عمل بيلين في اوسلو بمساعدة يئير هيرشفيلد ورون بونداك ولم يبلغ المسؤولين عنه الا بعد ان غدت في يديه مسودة اتفاق. ومع ان الحديث يدور عن اكاديميين كبار مفعمين بروح الرسالة، الا ان فريق اوسلو كان عديم التجربة في المفاوضات وتنقصه آليات مهنية؛ وذلك مقارنة بفريق المفاوضات الرسمي الذي عمل في ذاك الوقت في واشنطن واداره الياكيم روبنشتاين، بدعم من محافل التخطيط والاستخبارات الرسمية، استمرارا لمؤتمر مدريد في تشرين الثاني 1991. وفضلا عن ذلك – يبدو ان فهم فريق اوسلو لنتائج المسيرة لم يتطابق وفهم رئيس الوزراء رابين، كما سنوضح في السياق. وعلى الرغم من ذلك، ففي ايار 1993 اعترف رابين بقناة اوسلو كقناة مفاوضات سرية – رسمية. وقد تعزز فريق اوسلو بعدد من رجال المؤسسة الرسمية بقيادة مدير عام وزارة الخارجية اوري سفير. عمليا، يكون هكذا استكمل نقل التوجيه والتحكم التنفيذي في المفاوضات مع الفلسطينيين من ديوان رئيس الوزراء الى وزارة الخارجية حتى التوقيع على اتفاق اوسلو.

 

          قبيل المفاوضات على الاتفاق الدائم ظهرت مرة اخرى قناة خفية وبتركيبة مشابهة – بيلين، هيرشفيلد وبونداك. وقد سبق هذا الفريق بدء المفاوضات الرسمية وبلور في 31 تشرين الاول 1995 "تفاهمات ابو مازن – بيلين"، في موضوع مبادىء الاتفاق الدائم، وذلك رغم ان رئيس الوزراء رابين عرض في الكنيست في 5 تشرين الاول 1995 موقفا مغايرا تماما. وقد قتل رابين قبل ان تعرض هذه التفاهمات عليه. وفي العام 2000 حاول الرئيس الامريكي بيل كلينتون تبني التفاهمات كأساس للمفاوضات على الاتفاق الدائم في قمة كامب ديفيد، الا ان رئيس الوزراء باراك رفض.

 

          كقاعدة، يبدو أن هذه القنوات الخفية اضعفت قناة المفاوضات الرسمية في أنها ساعدت الفلسطينيين، ومحافل من خارج اسرائيل على تشخيص ثغرات، خلافات داخلية ومجالات مرونة في مواقف الطرف الاسرائيلي، وعلى ما يبدو اقنعت الفلسطينيين بانهم قادرون على أن يحصلوا على قدر اكبر في القنوات غير المباشرة مما في القناة الرسمية. ويبدو أن رابين كان يقظا لهذا الخطر، الا انه بعد تردد قرر التوجه الى قناة اوسلو مع ذلك.

 

       احساس بضيق الوقت في القيادة الاسرائيلية ("الزمن يعمل في طالحنا")

 

          في عهد حكومة رابين تعزز النهج القائل ان الزمن يعمل في طالح اسرائيل، خلافا لنهج رئيس الوزراء السابق اسحق شمير، الذي لم يكن لديه أي الحاح. وكان النهج الفلسطيني على مدى كل المسيرة "الصبر" و "الصمود" – وبالاساس "حقهم" بالارض.

 

          ان قرار تبني قناة المفاوضات في اوسلو يتطابق واحساس ضيق الوقت لدى رابين، الذي وعد في حملة الانتخابات بتحقيق اتفاق مع الفلسطينيين في غضون ستة حتى تسعة اشهر من موعد تعيينه، الذي بدأ في تموز 1992. ولما لم يتم الايفاء بوعده للناخب "ومل رابين القناة في واشنطن" تبنى في ايار – حزيران 1993 التفاهمات التي تحققت في اوسلو. وتبين لاحقا بان هذا الطريق المختصر كان طريقا بلا مخرج. واضافة الى الاحساس بضيق الوقت السياسي كان لدى رابين – مثل معظم زعماء اسرائيل في السنوات التالية – احساس بضيق الوقت لسببين استراتيجيين اساسين:

 

1. ضيق الوقت في ضوء "ساعة الرمل الديمغرافية". وتيرة التزايد السريع للسكان الفلسطينيين اعتبر تهديدا على مستقبل اسرائيل كدولة يهودية وديمقراطية، مثلما شدد رابين في الكنيست في 5 اكتوبر/تشرين الاول 1995.

 

2. ضيق الوقت خشية انغلاق "نافذة الفرص" التاريخية، التي فتحت في مؤتمر مدريد في 1991 وترافقت مع ضغط شديد على زعماء اسرائيل من الساحة الداخلية، الاقليمية والدولية -  للتقدم في المسيرة السياسية. اضافة الى ذلك فان الاتفاق مع الفلسطينيين يعتبر مفتاحا للتقدم في المسيرة السياسية مع دول عربية ايضا، وبالفعل في تشرين الاول 1994 وقع اتفاق السلام بين اسرائيل والاردن. والى ذلك ينبغي ان يضاف العبء الاخلاقي للسيطرة الامنية على السكان الفلسطينيين والتخوف من اندلاع فلسطيني اذا ما اغلقت نافذة الفرص السياسية.

 

          اسرائيل استبدلت المفاوضات مع مندوبي المناطق بالمفاوضات مع م.ت.ف

 

          قرار رئيس الوزراء اسحق رابين تبني التفاهمات التي تحققت في القناة الخفية في اوسلو استوجب الاعتراف بـ م.ت.ف واعتبارها شريكا في المفاوضات بدلا من مندوبي سكان المناطق الذين ادارت اسرائيل المفاوضات معهم في واشنطن. وكان لهذا معنى استراتيجي بعيد الاثر. فمع ان م.ت.ف عملت من خلف الكواليس في المفاوضات مع ممثلي سكان المناطق في واشنطن، ولكن اعتراف اسرائيل بها "كممثل قانوني وشرعي للشعب الفلسطيني" وسع التمثيل الفلسطيني في المفاوضات (من نحو 2.2 مليون نسم – سكان المناطق الى اكثر من 5.5 مليون نسمة – عموم الفلسطينيي في العالم في ذاك الوقت)، واطار المفاوضات من "مسائل 1967" الى "مسائل 1948". من مسائل الانسحاب من المناطق "التي احتلت" في حزيران 1967 ومكانة السلطة، التي وفت في رأس اهتمام سكان المناطق والاسرة الدولية، اتسعت المفاوضات الى مسائل تتعلق بقلب النزاع الاسرائيلي – الفلسطيني من فترة اقامة دولة اسرائيل في العام 1948. يدور الحديث اساسا عن تفسير واسع من جانب منظمة التحرير الفلسطينية لـ "حق العودة" على اساس قرار 194 للجمعية العمومية للامم المتحدة في 1948 (المسألة التي تقف في بؤرة اهتمام اللاجئين الفلسطينيين في الشتات)، عدم موافقة الفلسطينيين على النظر الى التسوية الدائمة كنهاية للنزاع وعدم اعتراف الفلسطينيين باسرائيل كدولة يهودية. وقد اثار الامر في اسرائيل الخوف من الا تكون م.ت.ف قد هجرت رؤيا "فلسطين الكبرى"، وهكذا فانها لا تختلف عن حماس.

 

          لقد أدى اعتراف اسرائيل بـ م.ت.ف الى اعتراف الولايات المتحدة بها، وعززت الدولتان المنظمة في ذروة ضعفها. في بداية التسعينيات،كانت م.ت.ف تعتبر منظمة ارهابية ايدت صدام حسين في حرب الخليج الاولى، وكانت تعيش في أزمة مالية هددت وجودها. يبدو أن اسرائيل لم تستخدم هذه الميزة الاستراتيجية كي تحصل على اتفاق افضل.

 

          في ذات الوقت كان بوسع اسرائيل أن تبدي الصبر، ان تواصل المداولات مع ممثلي سكان المناطق في القناة الرسمية في واشنطن وتعزيز زعماء المناطق، الذين ارتفعت مكانتهم بعد الانتفاضة الاولى. ولكن اذا كانت قد اختارت م.ت.ف، فقد كان عليها أن تحقق اتفاقا افضل بكثير من ذاك الذي تحقق في اوسلو، بما في ذلك الوصول الى اتفاق مسبق مع م.ت.ف في "مسائل 48" قبل البحث في مسائل 67، او عدم التوقيع على اتفاق على الاطلاق.

 

       اسرائيل اتخذت استراتيجية مفاوضات ضعيفة بالنسبة للفلسطينيين

 

          استراتيجية المفاوضات للفريق الاسرائيلي، والتي أدت الى اتفاق اوسلو، تميزت بنمط تفكير "من البداية الى النهاية"، بمعنى التقدم في المفاوضات "خطوة إثر خطوة" نحو مستقبل غير معروف، انطلاقا من التوقع بان هذه الخطة ستصمم واقعا جديدا يؤدي الى مستقبل افضل. لقد تبنى رابين هذه الاستراتيجية انطلاقا من الافتراض، الذي تبين بانه مغلوط، بانها تبقي في يد اسرائيل السيطرة على المسيرة ونتائجها.

 

          اما الاستراتيجية الفلسطينية، بالمقابل، فقد تميزت بنمط تفكير "من النهاية الى البداية"، أي، تحديد الاهداف النهائية للمسيرة والامتناع عن كل اتفاق من شأنه ان يمس بتحقيقها في نهاية المسيرة. وكنتيجة لذلك وافق الفلسطينيون في اوسلو على المساومة بشأن "المرحلة الانتقالية" (الامر الذي فسر كنجاح كبير في الطرف الاسرائيلي)، ولكن هذا بشرط أن تبقى كل المواضيع مفتوحة حتى البحث في المرحلة الدائمة، التي بدأت في 1996. وهكذا مثلا، "تنازل" الفلسطينيون عن ابقاء شرقي القدس تحت السيطرة الاسرائيلية في المرحلة الانتقالية، ولكنهم تمسكوا دوما بموقفهم  في أن هذه ستنقل اليهم في المرحلة الدائمة.

 

          في  اتفاق اوسلو ب واصلت اسرائيل استراتيجية "من البداية الى النهاية" ورغم أن الاتفاق فصل حتى عدد المسدسات التي يمكن للشرطة الفلسطينية ان تحوزها في كل بلدة فلسطينية، امتنعت اسرائيل عن أن تجمل مسبقا المجال الجغرافي الدقيق لاعادة انتشار الجيش الاسرائيلي في نهاية الفترة الانتقالية بل فقط المدة الزمنية لثلاثة مراحل يكون عليها فيها ان تنفذ الانسحاب، وأبقت هذا الخلاف العسير الى المستقبل. 

 

          وقد التقت الاستراتيجيتان معا في المناقشات في عهد حكومة  باراك (1999  – 2001)، وذلك لانه حتى في استراتيجية "من البداية الى النهاية"،  عندما يصل الامر الى النهاية يبقى البحث في المرحلة الاخيرة – الاتفاق الدائم. وعندها طافت الى السطح كل الخلافات بكامل شدتها.

 

          هندسة متعددة المراحل

 

          نمط التفكير من "البداية الى النهاية" وجد تعبيره في المبنى الهندسي للمفاوضات على مراحل في اتفاق اوسلو. وقد تبنى الفكرة "مهندسو اوسلو" على أساس نموذج الحكم الذاتي الفلسطيني في اتفاق كامب ديفيد مع مصر في 1978، وبموجبه تبدأ المفاوضات في المرحلة الاولى على الاتفاق الانتقالي، وفي المرحلة الثانية على الاتفاق الدائم. وفي اتفاق اوسلو تقررت مرحلة مسبقة للمفاوضات على التسوية الانتقالية، تقرر اساسه في "اتفاق القاهرة" في 4/ايار/1994، والذي أتاح ضمن امور اخرى دخول م.ت.ف الى اراضي قطاع غزة وأريحا واقامة السلطة الفلسطينية. في لحظة التوقيع على اتفاق القاهرة تقررت كبداية الفترة الانتقالية من خمس سنوات، في ختامها كان يفترض أن تبدأ المرحلة الدائمة. عمليا انقسمت المفاوضات الى مراحل ثانوية اضافية، بحيث ان الطرفين أدارا المفاوضات على نحو شبه متواصل على مدى ثماني سنوات.

 

          انعدام التماثل في المكاسب

 

          في مبادىء الاتفاق برز انعدام التماثل في المكاسب التي قدمها الطرفان الواحد الى الاخر في المراحل الثانوية حتى قبل النقاش على الاتفاق الدائم. فبينما وافقت اسرائيل على الانسحاب بالتدريج والى الابد من بعض المناطق (ذخرها الاساسي في المفاوضات على المرحلة الدائمة) منذ المراحل الثانوية، لم يكن الفلسطينيون مطالبين بتقديم أي مقابل او موافقة دائمة في مسائل جوهرية قبل المفاوضات على التسوية الدائمة. وهكذا سحقت الاستراتيجية الاسرائيلية عددا من اوراق المساومة للمستقبل وتركت في ايدي الفلسطينيين "كل الخيارات مفتوحة".

 

          "مفارقة المستوطنات"

 

          في اتفاقات اوسلو يكمن تضارب داخلي بين موافقة اسرائيل على انسحاب الجيش الاسرائيلي على مراحل في قسم هام من المناطق في المرحلة الانتقالية، وبين اصرارها على ابقاء كل المستوطنات في مكانها. وكنتيجة لذلك، أدى تطبيق اتفاقات اوسلو الى محاصرة المستوطنات في مجال فلسطيني معادٍ (مثل مستوطنة نتساريم في قطاع غزة) والى عمليات في يهودا على الطرق وفي البلدات. وقد مس الامر في تطبيق اتفاق اوسلو ب. ويعود أساس هذا الخلل في اخفاق منطقي مصدره نسخ فكرة المراحل من نموذج الحكم الذاتي لاتفاق كامب ديفيد في 1978، بينما عني هذا بحكم ذاتي اداري للسكان فقط، وليس بسيطرة فلسطينية على الارض وعلى الامن.

 

          قيود قدرة عرفات على تنفيذ الاتفاق

 

          كانت هذه مخاطرة اخرى، لم تؤخذ بالحسبان مسبقا ولم تولى اهتماما كافيا حتى العام 1996 على الاقل. كزعيم ثوري، لم يعرف عرفات كيف يقيم ويدير حكما ذاتيا على سكان، ووجد صعوبة في الصدام مع منظمات المعارضة في موضوع نزع سلاحها – الامر الذي كان ضروريا ليس فقط لامن اسرائيل بل وايضا لامن السلطة الفلسطينية، مثلما تبين في سيطرة حماس على القطاع في العام 2007.

 

          اتفاقات اوسلو اثارت توقعات عالية وتركت خلافات كبرى للمستقبل

 

          لقد اتيح التوقيع على اتفاق اوسلو في ايلول 1993 بفضل موافقة الطرفين على تأجيل المفاوضات على الخلافات الكبرى الى المرحلة الدائمة، وبفضل صياغة الاتفاق بلغة سمحت لكل طرف لان يرى فيه ما يريد. وقد خلقت اتفاقات اوسلو ظاهرا صورة مصالحة، ولكنها عمليا تركت على حالها الخلافات الكبرى بين اسرائيل والفلسطينيين الى المرحلة الدائمة، كما سيعرض لاحقا.

 

          في المسألة الاقليمية. المادة الاولى في اتفاقات اوسلو تقضي في أن يؤدي الاتفاق الانتقالي الى اتفاق دائم يقوم على أساس قرارات 242 و 338 الصادرين عن مجلس الامن في الامم المتحدة. ولكن كل طرف من الطرفين فسرهما على نحو مختلف. فقد تعاطى الفلسطينيون مع الاتفاق القائم على اساس عودة اسرائيل الى حدود 67 فيما صرح رئيس الوزراء رابين في الكنيست في تشرين الاول 1995: "لن نعود الى خطوط 4 حزيران 1967"؛ "سنقيم كتل استيطانية، وليته كانت مثلها، مثل غوش قطيف، في يهودا والسامرة ايضا".

 

          وفي موضوع الغور قال رابين ان "الحدود الامنية لحماية دولة اسرائيل ستكون في غور الاردن، بالمعنى الاوسع لهذا المفهوم".كما اعتقد رابين بانه بالاجمال ستنسحب اسرائيل من 50 – 70 في المائة فقط من اراضي الضفة. في نهاية المطاف، في المفاوضات على الاتفاق الدائم في العامين 2000 – 2001، ردت حكومة باراك بالايجاب على اقتراح كلينتون لاقامة دولة فلسطينية مستقلة على اراضي قطاع غزة و 94 في المائة من اراضي الضفة، مضاف اليها 3 في المائة (من اجمالي مساحة الضفة) من ارض بديلة في نطاق الخط الاخضر، ولكن الفلسطينيين لم يوافقوا حتى على هذا. وتجدر الاشارة الى أن الفلسطينيين ردوا ايضا اقتراح رئيس الوزراء اولمرت لابو مازن في آب 2008، الذي تضمن حسب فهمهم انسحابا اسرائيليا بمعدل 93.2 في المائة من الضفة مضاف اليها 5.3 في المائة لارض بديلة في نطاق الخط الاخضر.

 

          في نظرة الى الوراء لا يمكن القول اذا كان في هذه الظروف، او حتى أفضل منها لاسرائيل، كان يمكن تحقيق اتفاق دائم في العام 1993. ومع ذلك، يبدو أنه لو كان لدى رابين "كرة تنجيم" في 1993، ما كان ليختار قناة اوسلو واستراتيجية خفضت جدا فرص اسرائيل لتحقيق اتفاق افضل، كون الذخائرة التي تبقت تحت تصرف باراك في المفاوضات كانت اضيق من تلك التي كانت لرابين.

 

          في مسألة الدولة الفلسطينية. لقد قضى عرفات بان تقوم دولة فلسطينية في حدود 1967، ابتداء من ايار 1999 (في نهاية مسيرة اوسلو حسب الخطة). وبمقابله، قضى بيرس بالقطع في تشرين الثاني 1993 بانه لن تقوم دولة فلسطينية، ورابين أعلن في الكنيست في تشرين الاول 1995: "نحن نريد ان يكون هذا كيانا هو اقل من دولة وان يدير بشكل مستقل حياة الفلسطينيين الخاضعين لامرته". وروى د. يئير هيرشفيلد بانه مع بداية المفاوضات السرية غير الرسمية في اوسلو، في كانون الثاني 1993، فهم بان الاتفاق سيؤدي الى دولتين، ولكن ليس هكذا فهم وزير الخارجية بيرس ورئيس الوزراء رابين. وعلى حد قوله، كان بيرس بحاجة الى أربع سنوات اخرى كي يفهم هذا. اما د. رون بونداك فاشار الى أنه حتى 1998 ظن بيرس بان الحل هو "سيطرة ثلاثية – اسرائيلية، اردنية – فلسطينية – في الضفة". ويكشف هذا الامر فجوة كبيرة بين فهم "مهندسي اوسلو" لاهداف الاتفاق وبين فهم الزعماء الذين كان يفترض ان يطبقوه. مواقف زعماء اسرائيل في حينه – والتي بموجبها سيكون ممكنا الوصول الى اتفاق سلام مع الفلسطينيين دون اقامة دولة فلسطينية مستقلة – بدت غريبة في حينه ايضا (ضمن آخرين في نظر كبار رجالات شعبة الاستخبارات العسكرية). وذلك على نحو خاص حين كان اتفاق اوسلو يقوم على أساس نقل اراض الى السيطرة الفلسطينية (خلافا لفكرة الحكم الذاتي الاصلية). لو أن اسرائيل وافقت في عهد رابين على مبدأ اقامة دولة فلسطينية مستقلة الى جانب اسرائيل في المرحلة الدائمة، فلعله كان بوسعها أن تحصل على امور هامة مقابل ذلك. ومن ثم، حين كان للفلسطينيين سيطرة على السكان وعلى قسم هام من المناطق، فان مبدأ اقامة دولة فلسطينية لم تعد ورقة مساومة بيد اسرائيل بل موضوعا مسلما به في كل اتفاق دائم مستقبلي.

 

          في مسألة القدس. لقد أعلن عرفات بان القدس الشرقية ستكون عاصمة فلسطين المستقلة، وان الفلسطينيين لن يتنازلوا عن أي شبر. وشدد رئيس الوزراء رابين على أن "القدس الكاملة والموحدة ليست موضوع مساومة". وذلك خلافا لتعهده في اتفاق اوسلو بالبحث في مكانة المدينة في الاتفاق الدائم. وفي المباحثات على الاتفاق الدائم، في عهد باراك، وافق الطرف الاسرائيلي على تقسيم السيادة في القدس بين الدولتين، مضاف اليها قيام نظام خاص في الحوض المقدس ولكن الفلسطينيين رفضوا ذلك.

 

          في مسألة "حق العودة". في المفاوضات في واشنطن في العام 1993 اعتبرت هذه المسألة كملحقة يفترض ان تحل في المفاوضات متعددة الاطراف ويمكن تسويتها من خلال تمثيل رمزي للفلسطينيين يعود الى اسرائيل في اطار جمع شمل العائلات وتعويض مالي متفق عليه. وبالمقابل، بالنسبة لـ م.ت.ف التي مثلت على نحو مخلص ايضا الفلسطينيين في الشتات، فان "حق العودة" كان موضوعا مركزيا. الفارق بين المواقف انكشف في المفاوضات على التسوية الدائمة في العام 2000. في حينه رفض الفلسطينيون اقتراح حل وسط تقدم به الرئيس كلينتون وبموجبه تتنازل اسرائيل في مسألة السيادة في الحرم، بينما الفلسطينيون يتنازلون عن "حق العودة".

 

          عدم اعتراف م.ت.ف باسرائيل كدولة يهودية. في اوسلو اعترفت اسرائيل بـ م.ت.ف بانها "الممثل القانوني والشرعي للشعب الفلسطيني" كما تعرف نفسها دون أن تعترف م.ت.ف باسرائيل كدولة يهودية (وديمقراطية)، مثلما تعرف هي نفسها.

 

          واكتفى الطرف الفلسطيني في أن م.ت.ف اعترفت "بحق دولة اسرائيل بالوجود في سلام وفي أمن". هذا الموقف نال مفعولا مضاعفا عندما رفض رئيس السلطة الفلسطينية ابو مازن طلب رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو الاعتراف باسرائيل كدولة يهودية في العام 2009. ويبدو أن هذا الموقف جاء كي يحمي (على حد نهج م.ت.ف) مصالح مواطني اسرائيل الفلسطينيين الذين يشكلون جزءا من الشعب الفلسطيني ومبدأ حق العودة الى اسرائيل اسرائيل.

 

          ليس واضحا كيف توقعت اسرائيل ان تنجح في جسر فجوات المواقف العميقة هذه في المرحلة الدائمة، فيما كانت تنقل الى الفلسطينيين في المرحلة الانتقالية السيطرة في قسم هام من المناطق، كان يفترض أن تكون ورقة المساومة الاساس لديها في المفاوضات على التسوية الدائمة.

 

          ولم يكن الجهد لاغلاق الثغرات متبادلا. فقد تمسك الفلسطينيون بمواقفهم حتى عندما اقترب زعماء اسرائيل منهم وتراجعوا عن مواقف أساس، بما في ذلك اجتياز "خطوط حمراء". و "المقابل" الاساس الذي وافق عليه الفلسطينيون في المباحثات على التسوية الدائمة كان تبادل الاراضي (2 – 3 في المائة من يهودا والسامرة)، بنسبة 1:1، يتيح لاسرائيل ان تبقي في مكانها الكتل الاستيطانية والاحياء اليهودية في شرقي القدس. ولا تكمن الصعوبة في تراجع اسرائيل عن مواقفها – الامر الذي هو محتمل في كل مفاوضات، بل في أنه لم يكن لذلك موازٍ في الطرف الفلسطيني.

 

          اسرائيل واصلت المفاوضات وتطبيق الاتفاقات رغم الارهاب والتحريض. لقد ظهر العنف كعنصر في الاستراتيجية الفلسطينية من أجل الضغط على اسرائيل. بعد اتفاق اوسلو امتنع عرفات عن نزع سلاح محافل المعارضة، وهذه نفذت عمليات ارهابية في اسرائيل. في 7 تشرين الاول 2000 شرح نبيل شعث (في مقابلة مع السي.ان.ان) الموقف الفلسطيني فقال: "ليس الخيار بين المفاوضات وبين القتال، يمكن ادارة المفاوضات والقتال في نفس الوقت. لقد قاتل الشعب الفلسطيني بالسلاح، بالجهاد، بالانتفاضة وبالعمليات الانتحارية... فقد قيض لنا ان نقاتل دوما وان نجري مفاوضات، هذا الى جانب ذاك". اضافة الى ذلك، واصل الفلسطينيون التربية على العداء في المدارس وفي وسائل الاعلام. وقد خفض هذا النهج ثقة الجمهور الاسرائيلي بالفلسطينيين.

 

          لم يتحقق تأييد داخلي واسع للاتفاقات

 

          عنصر هام في القدرة على تحقيق اتفاق وتطبيقه هو التأييد الداخلي الواسع، وهذا لم يتحقق في مسيرة اوسلو. فقد ادير اتفاق اوسلو، بطبيعة الاحوال، سرا، ووقع مفاجأة على مواطني اسرائيل. فليس فقط تأهيل الرأي العام قبل التوقيع على الاتفاق كان قليلا، بل حتى بعد التوقيع على الاتفاق لم تنجح قيادة الدولة في تثبيت ثقة الجمهور بالخطوة. وكانت الشرعية الجماهيرية للاتفاق الانتقالي (اوسلو ب) حتى اقل من ذلك. ولم يكن لصيغة التسوية الدائمة التي أقرتها حكومة باراك تأييد كاف في الكنيست، بل ولم تصل الى التصويت. ويبدو أن في الحالتين توقع الزعماء اكثر مما ينبغي امكانية ان تفعل الدينامية فعلتها، مثلما كان في اتفاق السلام مع مصر.

 

          خلاصة ودروس للمستقبل

 

          يمكن ان نجمل باختصار قصة تصميم وادارة مسيرة اوسلو. لقد عملت اسرائيل ضمن امور اخرى في ظل احساس بالحاح الزمن، دفعها الى ان تتبنى اتفاقات بلورها فريق اسرائيلي مع ممثلي عرفات في قناة سرية خفية في اوسلو. في تصميم اتفاق اوسلو وفي السلوك في مسيرة اوسلو في عهد رابين تبنت اسرائيل استراتيجية تقوم على أساس التقدم "من البداية الى النهاية". وهكذا ظهر انها انسحبت على مراحل من مناطق في يهودا والسامرة وفي قطاع غزة منذ الفترة الانتقالية، دون مقابل حقيقي، وفي مرحلة المباحثات على التسوية الدائمة بقيت لاسرائيل ذخائر اقل للمفاوضات. ورغم أن حكومة باراك لطفت جدا مواقفها – اكثر بكثير مما فكر رابين وبيرس عند التوقيع على اتفاقات اوسلو – لم تغلق الفجوات بين المواقف، ولم يتحقق الاتفاق الدائم المنشود وشرع الفلسطينيون في انتفاضة الاقصى.

 

          لم يعنى المقال بكامل اسباب فشل مسيرة اوسلو ولكن يبدو أنه كان لطريقة تصميم وتطبيق اتفاق اوسلو دور هام في ذلك. يبدو أن احد الاسباب الاساس للفشل هو الفجوات العميقة في المواقف بين الطرفي، والتي كانت خفية عن العيان في اتفاق اوسلو واندلعت في المفاوضات على الاتفاق الدائم. وعلى فرض ان هكذا، فان اتفاق اوسلو ليس فقط لم يقرب السلام بين اسرائيل والفلسطينيين، بل يبدو أنه ابعده، في أنه اثار توقعات عالية تبددت بعد نحو سبع سنوات. المشكلة الكبرى ليست في نواقص اتفاق اوسلو، بل بالذات في القرارات لتطبيقه على مدى سنوات في ظل تجاهل الفوارق في مواقف الطرفين، التي احتدت، قبل المفاوضات على الاتفاق الدائم وفي سياقها. يبدو أنه منذ أن نشأت الفجوات الهائلة وتنفيذ اتفاق "غزة واريحا اولا" لم يثبت نفسه بعد، كان يفضل لو أن اسرائيل امتنعت عن التوقيع على اتفاق اوسلو ب وتنفيذه، والذي عني بانسحاب اسرائيلي من قلب مناطق يهودا والسامرة، حتى تحقيق تفاهمات واضحة بالنسبة لاستمرار المسيرة ونهايتها.

 

          مع مرور عشرين سنة على الاتفاق، واضح أن المسيرة غير قابلة للعودة. فما أن سلمت اراضٍ، حتى حصل أن قسما من اوراق المساومة لاسرائيل تأكل، وانشق المعسكر الفلسطيني، وتغير الشرق الاوسط بحيث لم يعد يعرف، وعدم الاستقرار الداخلي في بعض الدول يزيد من عدم اليقين حتى للمدى القصير. ومع ذلك، في الواقع الجغرافي – السياسي الحالي على الاقل، يبدو أن النموذج الاكثر معقولية لاتفاق محتمل في المستقبل مع الفلسطينيين (في الضفة) ليس بعيدا عن ذاك الذي وافقت حكومة باراك عليه.

 

          دروس لاسرائيل

 

       في المجال الاستراتيجي:

 

1. تبني تفكير "من النهاية الى البداية".وضع أهداف حقيقية لانهاء المفاوضات، حتى لو كانت واسعة من اجل السماح بمجال مناورة في المفاوضات. بعد أن طبقت استراتيجية "من البداية الى النهاية" في مسيرة اوسلو، وليس بنجاح، فان امكانية استخدام استراتيجية "من النهاية الى البداية" ادنى بكثير، ولكن يبدو ان هذه لا تزال الاستراتيجية المفضلة. في هذا الاطار من الافضل تفضيل اتفاق دائم يطبق على مراحل (مثل اتفاق السلام مع مصر) على اتفاق على المفاوضات على مراحل، مثل اتفاق اوسلو.

 

2. اذا ما اتجهت اسرائيل مع ذلك الى تسوية انتقالية، مثل اقامة دولة فلسطينية في حدود مؤقتة، من الافضل ان تحسم في المفاوضات على هذا الاتفاق معظم الخلافات المتعلقة بالتسوية الدائمة، بما فيها الخلافات المتعلقة بمسائل 1948  والمسائل الامنية كتجريد الدولة الفلسطينية من السلاح الثقيل، نزع سلاح محافل المعارضة، حق الطيران لسلاح الجو الاسرائيلي، تواجد قواعد استخبارات اسرائيلية في يهودا والسامرة وما شابه. ينبغي ان نبقي الى المرحلة الدائمة مسائل جوهرية قليلة قدر الامكان، مثل: ترسيم الحدود النهائية، ترتيب السيطرة في الحوض المقدس في القدس وما شابه.

 

3. في حالة ان كانت فرضية العمل السياسي هي انه لا تلوح امكانية تسوية دائمة في السنوات القريبة القادمة، وتكون اسرائيل معنية بترك كوة لحل الدولتين للشعبين، من الافضل ابقاء الوضع الراهن على حاله: عدم اجراء انسحاب احادي الجانب بسبب المخاطر العالية الكامنة في ذلك، ولكن ايضا عدم تنفيذ تغييرات "غير قابلة للتراجع" خلف جدار الفصل. ولغرض سياسة اسرائيل عمليا، وفي المستقبل بالاعلان ايضا، يمكن تحديد حدود ادنى تراها اسرائيل حيال يهودا والسامرة في المرحلة الدائمة (لنفترض، جدار الفصل)، وذلك دون تنفيذ انسحاب احادي الجانب بالفعل. مسألة غور الاردن تبقى مفتوحة. وتوضح هذه السياسة لمواطني اسرائيل، للفلسطينيين وللاسرة الدولية مجال البحث على الحدود الدائمة من جانب اسرائيل، وترتب سياستها بالنسبة للمستوطنات. مثلا،  توسيع الاستيطان في يهودا والسامرة في نطاق جدار الفصل، فيما يحفظ الامن ومستوى المعيشة للبلدات خارجه حتى تحديد مصيرها في الاتفاق الدائم، اذا ما وعندما يتحقق. غياب سياسة كهذه ادى الى تجميد البناء على مدى عشرة اشهر (من تشرين الثاني 2009 وحتى ايلول 2010) حتى في بلدات داخل جدار الفصل.

 

          في مجال ادارة المفاوضات وتطبيقها:

 

1. من الافضل التوقيع فقط على اتفاق لا لبس فيه نتائجه واضحة للطرفين يكون معقولا انه قابل للتحقق، او عدم التوقيع على اتفاق على الاطلاق. اذا ما ظهرت فجوات كبيرة في مرحلة تطبيق الاتفاق من الافضل تجميده، وذلك لانه خطأ اكبر من التوقيع على اتفاق سيء هو محاولة تطبيقه.

 

2. عدم اجراء مفاوضات سياسية تحت العنف، الارهاب والتحريض، الا اذا كانت اسرائيل مقتنعة بان الطرف الفلسطيني يفعل كل ما في وسعه لمنع ذلك. وفي ظل ذلك الاصرار على تطبيق كل الالتزامات الفلسطينية في المجال الامني (بما في ذلك جمع السلاح من المعارضة)، والاصرار على وقف التحريض في وسائل الاعلام وفي المدارس الفلسطينية.

 

3. رغم ان اسرائيل غير ملتزمة بالمواقف التي عرضت في الاتصالات التي لم تؤدي الى اتفاق، من الافضل الامتناع عن تآكل المواقف في الاتصالات المختلفة التي تجريها اسرائيل مع الولايات المتحدة، مع الاسرة الاوروبية وغيرها، حتى في اثناء البحث في اقتراحات افتراضية. كل موافقة على انسحاب اسرائيلي من شأنه ان يصبح موقفا أوليا في المفاوضات في المستقبل.

 

4. اجراء مفاوضات من خلال فريق خبير وغني بالتجربة (بما في ذلك ادراج رجال اعمال في الفريق، خبراء في ادارة المفاوضات بطبيعة عملهم)، والاستعانة بمديرية مفاوضات مهنية، لادارة كل قنوات المفاوضات تحت جهة واحدة وتحديد هيئة رقابة. وفي ظل ذلك، الامتناع عن كثرة القنوات المتوازية بشكل عام، والحظر بشكل خاص على القنوات الخفية عن رئيس الوزراء. ومع ذلك، الاستعانة باتصالات سرية من قبل رئيس الوزراء، لغرض الاختراق.

 

5. الامتناع عن اتفاقات تثير توقعات عالية لدى الطرفين دون ان يكون يقين كاف لتحقيقها، وذلك لان لازمة التوقعات ثمنا باهظا. وكذلك الاخذ بالحسبان مسبقا مخاطر تنفيذ الاتفاق، ادارتها وفحص السبل لتخفيضها. ضمن امور اخرى، ان تدرج في الاتفاق حقوق لاسرائيل في حالة عدم التزام الفلسطينيين بتعهداتهم الامنية. الامتناع  عن التقدم الى المرحلة التالية، طالما لم تتحقق المرحلة السابقة بكاملها.

 

6. الالتزام بان يحسم كل قرار جوهري في موضوع التسوية الدائمة – في الكنيست او في استفتاء شعبي – باغلبية تزيد عن 60 في المائة.

 

 

 

*  *  *

 

 

 

عشرون عاما على مسيرة اوسلو – الميزان2

 

بقلم: شلومو بروم

 

معايير الفحص

 

          عند محاولة فحص مسيرة سياسية مركبة في موضوع على هذا القدر من الخلاف مثل مسيرة اوسلو، يطرح على الفور سؤال مقاييس فحص المسيرة. ولا يمكن للاختبارات ان تكون منقطعة عن التعريف – الذي هو بالتأكيد سياسي – للاهداف الوطنية، او بتعبير آخر – الرؤيا الوطنية لاسرائيل. فمن ناحية محبي بلاد اسرائيل الكاملة، فان الهدف الوطني الاساس هو السيادة الاسرائيلية الكاملة على كل اراضي بلاد اسرائيل التاريخية. من ناحيتهم، مسيرة اوسلو هي فشل منذ لحظة ولادتها لانها وضعت لنفسها هدفا ولد في الخطيئة، وهو يتناقض مع الهدف الوطني الاساس لاسرائيل. كان واضحا لمبادري المسيرة بانه لن تكون امكانية للوصول الى اتفاق دائم دون تقسيم ارض بلاد اسرائيل التاريخية بين اسرائيل والفلسطينيين.

 

          لغرض هذا المقال، فان الاقتراح هو تبني التعريف التالي للرؤيا الوطنية الاسرائيلية، التي تتلائم على ما يبدو وفهم مفكري مسيرة اوسلو: "ضمان وجود اسرائيل بصفتها الدولة القوية الديمقراطية للشعب اليهودي". ثمة في هذا التعريف ثلاثة عناصر مركزية: الوجود، الدولة القومية اليهودية والدولة الديمقراطية، ومن هذه العناصر تنشأ الحاجة للوصول الى اتفاق دائم مع الفلسطينيين ينهي النزاع معهم، على اساس مبدأ دولتين للشعبين. لا يوجد سبيل لضمان وجود اغلبية يهودية صلبة في دولة اسرائيل – الذي هو الشرط لوجود اسرائيل دولة القومية الديمقراطية للشعب اليهودي – دون تطبيق حل الدولتين للشعبين. ولكنه لا يمكن أيضا ضمان الوجود دون الضمان بان في نهاية المسيرة ينشأ واقع آمن، يسمح لاسرائيل بان تتصدى بنجاح للتهديدات الامنية.

 

          على اساس هذه الفرضيات، فان المعيارين الاساسين المقترحين هما: 1. الى اي حد نجحت المسيرة في أن تقربنا من تحقيق هدف حل الدولتين. 2. باي قدر حوفظ على امن اسرائيل في المسيرة. لهذ المعيارين ثمة معنى لان يضاف مقياس ثالث، وهو كم كانت المسيرة ناجعة وصحيحة. فسواء انتهت المسيرة بنجاح أم بفشل في تحقيق الاهداف، فان ثمة معنى للسؤال ما هي اسباب النجاح أو الفشل؛ وهل كان ممكنا عمل ذلك بشكل افضل؛ ما هي الامور الصحيحة التي تمت في اطار المسيرة وما هي الاخطاء.

 

          مدى تحقيق هدف ضمان هوية اسرائيل عبر حل الدولتين

 

          لا خلاف في ان اسرائيل لا تزال بعيدة عن تحقيق هذا الهدف. فمسيرة اوسلو لم تنجح في منع استمرار الوضع الراهن للسيطرة الاسرائيلية في يهودا والسامرة (الضفة)، واستمرار اتساع مشروع الاستيطان والمعنى هو أن اسرائيل تنزلق الى واقع دولة ثنائية القومية ليست حقا دولة ديمقراطية وذلك لانه يوجد جمهور كبير من الفلسطينيين لا يتمتع بحقوق المواطن.

 

          ولكن لا ينبغي الاكتفاء بهذا الجواب فقط، وذلك لانه هكذا نتجاهل امكانية ان تكون موجودة اضطرارات تجعل من الصعب جدا تحقيق الهدف الكامل، او للاسف، تطيل جدا المسيرة التي لا تزال نهايتها صعبة على الرؤية. واستتباعا لهذا السؤال، هناك معنى لأن نسأل أليس هناك أهداف وسطى يقرب تحقيقها اسرائيل من تحقيق الاهداف المنشودة، وبأي قدر تحققت الاهداف الوسطى. عند محاولة الاجابة على هذه الاسئلة ايضا يكون الجواب اكثر تركيبا.

 

          أولا أدت مسيرة اوسلو بطريق ملتوٍ الى فك الارتباط احادي الجانب عن قطاع غزة. ومن الصعب الافتراض ان اسرائيل كانت ستصل الى ذلك لولا هذه المسيرة. فقد كان فك الارتباط عن غزة خطوة اولى هامة لضمان الفصل بين اسرائيل والكيان السياسي الفلسطيني. وثانيا، وكنتيجة لمسيرة اوسلو تبلور لدى الجمهور الاسرائيلي والفلسطيني تأييد واسع لحل الدولتين وثمة أغلبية صلبة تؤيد هذا الحل. ولا يشكل الرأي العام الاسرائيلي عائقا حقيقيا امام تطبيق الحل. ثالثا، تشكلت في المناطق الفلسطينية نواة كيان سياسي اقليمي فلسطيني في شكل السلطة الفلسطينية، وجرى البدء بعملية بناء دولة فلسطينية ومؤسساتها بما في ذلك أجهزة أمن تقيم تعاونا وثيقا مع أجهزة الامن الاسرائيلية. وأخيرا "ذبحت" في  اثناء المسيرة العديد من "البقرات المقدسة"، والتي شكلت عوائق جدية في وجه امكانية تطبيق حل الدولتين، ولهذا فقد تقلصت جوهريا فجوات هامة بين الطرفين. ومثال نموذجي عن مثل هذه "البقرة المقدسة" هو "القدس الموحدة لابد الآبدين".

 

          لا يمكن لنا أن نفهم أهمية هذه الانجازات دون فحص للوضع السياسي الاسرائيلي – الفلسطينيي عشية انطلاق مسيرة اوسلو. فحتى فوز اسحق رابين في انتخابات 1992، كانت تحكم اسرائيل على مدى 15 سنة ايديولوجيا بلاد اسرائيل الكاملة. وكان اسحق شمير، الذي كان رئيس الوزراء قبل اسحق رابين، وافق على الانضمام الى مسيرة مدريد (اواخر 1991) واجراء مفاوضات مع الدول العربية، ولكن نيته كانت التسويف لغرض تحقيق رؤيا بلاد اسرائيل الكاملة. وكانت قنوات المفاوضات الثنائية مع سوريا ومع الاردن في اطار مسيرة مدريد قنوات عابثة، لم  تعقد فيها مفاوضات جدية. ولم يوافق شمير على اجراء مفاوضات مع الفلسطينيين، ولهذا ضم الوفد الاردني مندوبين فلسطينيين، زعم انهم يمثلون الفلسطينيين المحليين في المناطق المحتلة. اما عمليا فقد عينتهم م.ت.ف لانه لم يكن أي فلسطيني مستعدا لان يكون عضوا في وفد المفاوضات دون إقرار م.ت.ف وتوجيهها. وكان ابقاء على الوضع الراهن في المناطق  ومواصلة مشروع المستوطنات هي الاهداف الحقيقية لاسرائيل، في ظل تجاهلها لخطر الانزلاق الى دولة ثنائية القومية وغير ديمقراطية. وكانت ثمة صعوبة جمة في تحطيم هذا الواقع، والمفاوضات التي ادت الى التوافق على اعلان المبادىء والشروع في مسيرة اوسلو هي التي أحدثت التغيير.

 

          ضمان أمن اسرائيل

 

          لقد انطوت مسيرة اوسلو على الاخذ بمخاطر امنية، لم يكن بدونها أي سبيل للتقدم الى اتفاقات سياسية وغيرها مع الاطراف العربية. وحتى قرار بسيط مثل  السماح للعمال الفلسطينيين بالعمل في اسرائيل – كان معناه مخاطرة أمنية معينة. والسؤال هو هل كان الاخذ بالمخاطر متوازنا، وهل اتخذت الخطوات المناسبة لتقليص هذه المخاطر.

 

          لقد نبعت المخاطر الامنية الملموسة من الاستعداد لمنح السلطة الفلسطينية صلاحيات أمنية في قسم من المنطقة، وفي هذا الاطار السماح لهم بتشكيل قوات مسلحة بحجم محدود ومع سلاح محدود، وكذا من الموافقة على الدخول الى المناطق لفلسطينيين من منظمات م.ت.ف كانوا يشاركون في الماضي في أعمال الارهاب.

 

          كما أن ثمة ادعاءً سائدا بان المسيرة نفسها خلقت لدى محافل فلسطينية مختلفة الدافع لاستخدام العنف، والحافز للثورة ضد الاحتلال الاسرائيلي في ظل استخدام السلاح، مثلما وجد الامر تعبيره في  الانتفاضة الثانية. والادعاء هو أنه لو لم يرفع مستوى توقعات الفلسطينيين، لما كان رد فعلهم مثلما كان. بمعنى أنه لو لم يذهب باراك الى مؤتمر كامب ديفيد، لما كانت انتفاضة ثانية. وعند فحص العلاقة بين العنف الفلسطيني والمسيرة السياسية، فاننا نجد بالفعل بعض الاحيان تناسبا ايجابيا يمكن أيضا شرحه. فقد سعت منظمات الارهاب الى افشال المسيرة السياسية عبر العمليات. وبالفعل، فان توقيت اندلاع الانتفاضة الثانية هو الاخر كان مرتبطا بالاحباط الذي نبع من فشل قمة كامب ديفيد. والسؤال هو أما كان يمكن لعنف فلسطيني مشابه ان يندلع حتى دون مسيرة اوسلو. مع كل ما في تحليل السيناريوهات التي لم تقع من هذا النوع من صعوبة، فان الجواب المحتمل لهذا السؤال يمكن استخلاصه من تحليل تاريخ السيطرة الاسرائيلية في المناطق. فقد تميزت هذه بموجات من اندلاع العنف. ومثال بارز على ذلك هو الانتفاضة الاولى. فقد اندلعت بسبب احباط متراكم في ظل غياب مسيرة سياسية. ومع أنها بدأت كانتفاضة شعبية دون استخدام للسلاح، الا انها تدهورت بعد وقت ما الى استخدام السلاح. وبشكل عام يمكن لنا أن نرى تكرارا معروفا مسبقا يبدأ فيه الفلسطينيون بالانتفاض على الاحتلال باستخدام السلاح. وتنجح أجهزة الامن الاسرائيلية في التغلب على خلايا الارهاب وتصفيتها، ويتبلور اعتراف لدى الفلسطينيين بانهم لن ينجحوا في تحقيق هدفهم باستخدام العنف وعندها يبحثون عن سبيل آخر – انتفاضة شعبية او طريق سياسي – ولكن هذا أيضا فشل. وفي هذه الاثناء تمر السنين وينشأ جيل جديد من الشبان لم يشعر على جلدته بثمن استخدام العنف، فيعود الى طريق العنفن وهلمجرا. الافتراض في انه اذا لم تكن مسيرة سياسية ترفع توقعات الفلسطينيين فانهم سيسلمون بالاحتلال ولم يستخدموا العنف، يبدو مدحوضا. وبالمناسبة، في هذا السياق، يبدو أن فوز اسحق رابين في انتخابات 1992 قد تحقق، بقدر كبير، بتأثير موجة من الارهاب الشعبي الفلسطيني العفوي في فترة ما قبل الانتخابات.

 

          اما بالنسبة للمخاطر الامنية المباشرة التي نبعت من تسليح الفلسطينيين ودخول ارهابيين سابقين الى المناطق، مشكوك انه كان لمعظمهم دور مركزي، غير النفسي، في الثمن الامني الذي دفعته اسرائيل في مسيرة اوسلو. فقد كان في  المناطق الفلسطينية سلاح غير قليل حتى قبل ذلك. ومعظم الخسائر التي لحقت باسرائيل كانت في العمليات الانتحارية. وقد استندت هذه الى مادة متفجرة معدة محليا لم تكن لها أي صلة بسلاح السلطة الفلسطينية. وكاد زعماء الارهاب و "مهندسون" على أنواعهم يكونون جميعهم من "انتاج محلي". ولم تشكل اجهزة الامن الفلسطينية نفسها مشكلة حقيقة لقوات الامن الاسرائيلية، وان كان افراد منها انضموا الى العمليات الارهابية. اما "الارهابيون الشيوخ" ممن عادوا من تونس الى المناطق فلم يشكلوا المشكلة الحقيقية. وبالفعل، خلق الاتفاق الانتقالي واقامة السلطة الفلسطينية اضطرارات على حرية عمل قوات الامن في المناطق أ حيث المسؤولية الامنية حسب الاتفاقات كانت في يد الفلسطينيين. وكان الافتراض في أنه سيكون تعويض عن ذلك عبر التعاون الامني مع اجهزة أمن السلطة الفلسطنيية. وبرر هذا الافتراض نفسه في جزء من الفترة فقط. ولكن حين تبين ان الفلسطينيين لا يفون بتعهداتهم، لم يخلق الاتفاق واقعا منع الجيش الاسرائيلي وأجهزة الامن من ان تستعيد لنفسها حرية العمل في حملة "السور الواقي" وفي الاعمال المتواصلة بعدها.

 

          ان أحد الاعتبارات الاساس التي ينبغي ان تؤثر على اخذ المخاطر الامنية هو منع وضع تصبح فيه غير قابلة للتراجع. وأخذت الترتيبات الامنية التي تقررت في الاتفاق الانتقالي بالحسبان هذا الاعتبار، وفي نظرة الى الوراء تبين أنها كانت في محلها. ولم تشكل قوات الامن الفلسطينية عائقا ذا مغزى في وجه استعادة حرية العمل الامني الاسرائيلية. وتجدر الاشارة في هذا السياق الى أن الواقع الامني المستقر الذي نشأ بعد الانتفاضة الثانية ومساهمة مسيرة أنابوليس، مع صفر عمليات تقريبا وتعاون وثيق من أجهزة الامن الاسرائيلية والفلسطينية تسمح بالعودة التدريجية الى شروط الاتفاق الاصلية، وعلى رأسها حرية العمل الامني الكاملة لاسرائيل.

 

          ولكن البحث الكامل في الاثار الامنية لمسيرة اوسلو ليس ممكنا اذا امتنعنا عن البحث في المساهمة الاسرائيلية في خلق مشاكل الامن، ابتداء من المذبحة التي ارتكبها باروخ غولدشتاين في الحرم الابراهيمي وفي ردود الفعل الاسرائيلية على هذه المذبحة، والتي في اطارها كان السكان الفلسطينيون في الخليل هم الوحيدين الذين عوقبوا على المذبحة، بما في ذلك الاعمال الاسرائيلية الاستفزازية. وفي اثناء هذه الفترة تبلور نمط عمل يتمثل في أنه كلما ظهر احتمال لاستقرار الواقع الامني،  اتخذت اسرائيل اعمالا اشعلت الاجواء من جديد. وثمة على ذلك بضعة أمثلة باردة. الاول هو تصفية يحيى عياش، "مهندس" حماس في قطاع غزة في كانون ثاني 1996. وقد صفي بقرار رئيس الوزراء شمعون بيرس بعد أن توصل عرفات الى الاستنتاج بانه لا يمكنه ان يواصل اللعب مع محافل الارهاب وانه ملزم بالعمل ضدها بجدية. وقد عملت اجهزة الامن الفلسطينية في هذه الفترة بتعاون مع نظيرتها الاسرائيلية. كما مارس عرفات ضغطا سياسيا جديدا على زعماء حماس وحملهم على اتخاذ قرار بوقف الارهاب. وأدت تصفية عباس الى موجة فتاكة من العمليات الانتحارية وكانت لها آثار جسيمة على السياسة الاسرائيلية. في ايلول 1996، وبعد أن ادى التعاون بين اسرائيل والسلطة الفلسطينية الى استقرار أمني، قرر رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو فتح نفق المبكى، مما ادى الى انفجار المواجهات بين الطرفين رغم أنه كان في الخلفية توتر بسبب عدم التزام اسرائيل بتعهداتها في الاتفاق الانتقالي والامتناع عن استئناف المفاوضات. وفي كانون الثاني 2002 صادق رئيس الوزراء ارئيل شارون على تصفية المسؤول الكبير في منظمة فتح، رائد الكرمي في طولكرم.  وقد جاءت هذه التصفية بعد أن توصل عرفات في اعقاب العمليات في البرجين التوأمين في نيويورك في 11 ايلول 2001  الى الاستنتاج بان استمرار الانتفاضة العنيفة يلحق ضررا بالقضية الفلسطينية، كونه يخلق تماثلا بين القاعدة وبين الفلسطينيين. وقد اتخذ اعمالا جدية لوقف العمليات واستقرار الوضع الامني بنجاح بارز. فقد انخفض حجم العمليات في الفترة ما بعد هذا القرار الى نحو الصفر. اما تصفية الكرمي فقد أوقفت هذه المسيرة وأدت الى الاستئناف الكامل لدائرة العنف حتى "اذار الاسود" (2002) والذي قتل فيه 135 اسرائيليا في عمليات انتحارية.

 

          لقد دفعت اسرائيل الثمن الامني الاساس في  الانتفاضة الثانية. ولا تزال حاجة ماسة الى بحث حقيقي في اطاره توضع فيه كل المواد (بما فيها السرية) تحت تصرف الباحثين لمحاولة تحديد اسباب اندلاع الانتفاضة، ولماذا كانت على هذا القدر من التواصل والدموية. وسيتعين على هذا البحث، اولا ان يدرس المسألة موضع الخلاف العميق – هل الزعامة الفلسطينية (عرفات) خططت للانتفاضة، ام أن هذه كانت انفجارا شعبيا، وأخطأ عرفات حين قرر "امتطاء ظهر النمر". مسألة مركزية ثانية هي هل ساهمت اسرائيل في نشوء وارتقاء الانتفاضة الثانية، تواصلها وطابعها الاجرامي بسبب رد فعلها غير المتوازن حين بدأت. ثمة صلة بين الاجوبة على السؤالين، وذلك لانه اذا لم تكن الانتفاضة الثانية مخططة لكان من المحتمل جدا ان يكون ممكنا كبح جماحها ووقفها في مرحلة مبكرة – قبل ان يسفك دم فلسطيني كثير وينشأ دافع عال جدا للثأر – بذات الشكل الذي صد فيه التصعيد في اعقاب فتح نفق المبكى في 1996.

 

          ان محبي نظريات المؤامرة على انواعهم يمكنهم ظاهرا أن يستنتجوا بانه توجد هنا سياسة اسرائيلية ثابتة تقضي بمنع الاستقرار والهدوء الامني. يبدو أن هذا الادعاء ليس صحيحا على نحو ظاهر. فهذه الحالات تعكس بقدر اكبر مشاكل في اتخاذ القرارات وفي التفكر مما تعكس النوايا المبيتة. فقرارات مثل تصفية عياش وكرمي لم تنبع من سياسة واعية لمنع الهدوء بل من اغراء الفرصة التنفيذية في ظل تجاهل الاثار المحتملة لهذه الاعمال.

 

          تحليل مسيرة المفاوضات

 

          ان الانتقاد المركزي على مسيرة اوسلو هو كونها  تقوم على اساس تسويات انتقالية، دون اتفاقات بشأن أهدافها النهائية. فقد اتفق الطرفان على تأجيل المفاوضات على المواضيع الحساسة للاتفاق الدائم – الحدود، القدس واللاجئين، والاكتفاء باتفاقات انتقالية على حكم ذاتي فلسطيني. وكان الافتراض ان هذه ستكون مسيرة بناء ثقة، تسهل لاحقا النقاش في مواضيع التسوية الدائمة. اما عمليا، فقد اعطت التسويات الانتقالية فرصة للمحافل المعارضة للاتفاق في الطرفين  لافشال المفاوضات، من خلال استخدام العنف. كما أنها خلقت دافعا لدى الطرفين لان يحققا لكل طريق ممكن ذخائر تسمح لهما بترسيخ مواقفهما. وكانت يد اسرائيل في هذه العملية هي العليا، لانه يوجد عدم تماثل للقوة في صالح اسرائيل. وهكذا مثلا، خلقت المسيرة دافعا قويا لتوسيع المستوطنات. والمسيرة التي كان يفترض بها أن تكون بناء ثقة أصبحت مسيرة هدم ثقة. ولهذه الاسباب يدعي المنتقدون بانه كان من الافضل لو أن المفاوضات بدأت في كل المواضيع الجوهرية للاتفاق الدائم.

 

          واسنادا لهذا الانتقاد ينبغي لنا أن نفحص اولا هل البديل المقترح كان قائما وعمليا، وثانيا – هل كانت مسيرة اوسلو افضل من البديل الاضافي لمواصلة الوضع الراهن وغياب كل مفاوضات ناجعة على تسوية مع الفلسطينيين. وعلى السؤال الثاني سبق ان جاء جواب في المقال حيث ورد ان استمرار الوضع الراهن مثلما كان في عشية مسيرة اوسلو كان البديل الاسوأ. يبدو أن الجواب على السؤال الاول هو الاخر سلبي. فبديل المفاوضات الناجعة على جوهر التسوية الدائمة لم يكن واقعيا. والنقاشات العابثة في مجموعة المفاوضات الاسرائيلية – الاردنية – الفلسطينية، التي عملت كجزء من مسيرة مدريد، والاتصالات المتواصلة في القنوات المختلفة بين اسرائيل وم.ت.ف – أوضحت بان الطرفين غير ناضجين بما فيه الكفاية للمفاوضات على التسوية الدائمة، وللاثمان التي يتعين عليهما أن يدفعاها في المواضيع الحساسة. وهذا الادعاء صحيح على نحو خاص للطرف الاسرائيلي – الجمهور وزعمائه. ويكفي أن نرى الصعوبة التي كانت للزعامة الاسرائيلية التي كانت في الحكم في كل الالوان، من يسار او يمين، كي يتفوهوا بتعبير "حل الدولتين للشعبين"، والنطق بعبارة "دولة فلسطينية". وحتى في الفترة اللامعة للمسيرة، عندما دارت مفاوضات ناجعة ووقعت اتفاقات، لم ينبس رئيس الوزراء رابين ولا وزير الخارجية بيرس بهذه التعابير. وفي العام 1999 فقط، عندما بدأت الاستعدادات للمفاوضات على التسوية الدائمة ولم يعد ممكنا التملص من القول ان النتيجة النهائية ستكون اقامة دولة فلسطينية بدأ التعبير يكون دارجا على السنة الشخصيات الاسرائيلية الحاكمة ايضا. ولا غرو ان الطرفين تمسكا بالسابقة التي اعطت شرعية للمسيرة: اتفاق كامب ديفيد بين رئيس الوزراء مناحيم بيغن والرئيس المصري انور السادات. فقد تقرر في هذا الاتفاق ان تعقد مفاوضات بين الطرفين على حكم ذاتي فلسطيني. وبدت هذه للطرفين مرحلة اولى مريحة قبل الدخول الى المفاوضات على التسوية الدائمة. كما يجدر بالذكر ان سابقة اتفاق السلام مع مصر جسدت اهمية التسويات الانتقالية كخطوات لبناء الثقة، أتاحت لاحقا مفاوضات ناجحة على اتفاق السلام. فاتفاق فصل القوات في سيناء والذي وقع في عهد حكومة رابين الاولى (1974) وضع الاساس للتوقيع على اتفاق السلام مع مصر بعد نحو خمس سنوات.

 

          اذا ما قبلنا بهذه الاستنتاجات فان المرحلة التالية اللازمة في فحص مسيرة اوسلو هي ان نفحص هل كان تحول المسيرة الى مسيرة هدم الثقة، انهيار المسيرة والاثمان الامنية التي دفعت امرا محتما، أم أنه ارتكبت من الجانب الاسرائيلي اخطاء كان ممكنا منعها، وهي – مضافة اليها اخطاء مشابهة في الجانب الفلسطيني، مثل الامتناع في مراحل مختلفة عن العمل الحازم ضد الارهاب – ادت الى انهيار مسيرة اوسلو. جواب جزئي جاء على ذلك في التحليل الامني. كما أن للسلوك الامني الاسرائيلي كانت مساهمة في التدهور.

 

          بالنسبة للمفاوضات نفسها، بداية على التسويات الانتقالية، ولاحقا على التسوية الدائمة، تطرح عدة اسئة مركزية:

 

1.              العلاقة بين ادارة المفاوضات في طواقم متخصصة وبين لقاءات الزعماء.

 

2.               الموقف من الاحداث الخارجية.

 

3.               المفاوضات العلنية حيال الاتصالات السرية.

 

4.            كيف تتبلور المواقف الاولية، ومسألة الخطوط الحمراء.

 

5.             كيف يبقى على الزخم؟

 

6.              كيف تمنع تطورات على الارض تضر بفرص الوصول الى اتفاق؟

 

طبيعة ادارة المفاوضات – ان مفاوضات مركبة مثل تلك التي بين اسرائيل والفلسطينيين مضنية وتستغرق زمنا طويلا جدا. فلا يمكن ادارتها بين الزعماء ذوي الانشغالات الكثيفة. فهؤلاء لا ينبغي أن يتدخلوا فيها الا عندما يكون مأزق وتكون حاجة الى حل مشكلة معينة، او في نهايتها، عندما يكون تحقق توافق في معظم المواضيع بين طواقم المفاوضات، وتكون حاجة الى تدخل الزعماء لاجل التغلب على العوائق القليلة الاخيرة. في احيان قريبة، يخطيء الزعماء الاسرائيليون بالتعلل بالوهم في أنه يمكنهم ان يجملوا وحدهم الامور مع الطرف الاخر. ولكن اللقاءات بين الزعماء هي احداث دراماتيكية وتأسيسية. اذا لم تعد كما ينبغي واذا ما خلف الزعماء قدرا أكبر مما ينبغي من المواضيع التي لم يتفق عليها مسبقا، فالنتيجة هي بشكل عام فشل له آثار واسعة. ومثال بارز على ذلك هو فشل ايهود باراك في مؤتمر كامب ديفيد 2000.

 

احداث خارجية – توجد أنواع مختلفة، من المهم على نحو خاص ذكر اثنين منها: استخدام العنف من جانب جهات ترغب في تفجير المفاوضات، وتطورات سياسية تخلق احساسا بالالحاح. فاستخدام العنف يطرح دوما السؤال هل ينبغي مواصلة المفاوضات. لقد ثبت اسحق رابين الجملة التالية، على  اساس قول بن غوريون من عهد الحرب العالمية الثانية (بالنسبة لسلطات الانتداب البريطاني): "نكافح الارهاب وكأنه لا توجد مفاوضات، ونجري المفاوضات وكأنه لا يوجد ارهاب". ولكن حتى رابين لم يعمل بموجب هذا القول، وجمدت المفاوضات في حالات عديدة بسبب العمليات، وليس دوما لان الطرف الفلسطيني لم يتعاون في مكافحة الارهاب، بل بسبب الخوف من الرأي العام. وكان الاساس في قول رابين هو الافتراض انه لا ينبغي منح جائزة للمبادرين بالارهاب من خلال وقف المفاوضات. كان ينبغي، بالتالي، العمل بشكل ثابت بموجب هذه السياسة. درس مركزي آخر لمسيرة اوسلو هو أنه كان ينبغي الاجتهاد لتجاهل أحداث خارجية تخلق احساسا (مصطنعا في احيان كثيرة) بالالحاح. وهكذا مثلا، ذهب ايهود باراك الى مؤتمر كامب ديفيد في ظروف انعدام النضج فقط لان ولاية الرئيس كلينتون كان توشك على الانتهاء. وكانت النتيجة، في احيان كثيرة، ادارة مغلوطة للمفاوضات وخلق الظروف التي تؤدي الى فشلها.

 

العلنية مقابل السرية – عندما تدار المفاوضات بشكل علني جدا، يمكن بسهولة الاستنتاج بان الطرفين المشاركين غير معنيين بنجاحها، وانهما يستدعيان فشلها. بداية يجب ان تبنى ثقة متبادلة تؤدي الى تفاهمات اساسية في اتصالات سرية. ثمة أهمية كبيرة للاجزاء العلنية من المفاوضات، لان الطرفين يحتاجان الى نيل التأييد في الرأي العام، ولكن يجب الحرص على الا يلحق جراء ذلك ضرر في نجاعة المفاوضات. فادارة المفاوضات في وسائل الاعلام تضر بالثقة المتبادلة، وينبغي ان يعزى لها بعض من اسباب المأزق في السنوات الاخيرة.

 

الموقف الاولي والخطوط الحمراء – في حالات عديدة دخلت اسرائيل الى المفاوضات وهي تستند الى الافتراض بان ادارتها تشبه محاولة الوصول الى صفقة في سوق الشرق الاوسط. يصل الطرفان الى المداولات مع مواقف بعيدة عن مواقفهم ولهذا فلديهم مساحة واسعة للحل الوسط. هذا افتراض متعال على الشريك في المفاوضات وغير صحيح على حد سواء. وقد أدى الى اخفاقات عديدة في اثناء المفاوضات. الفلسطينيون لم يدخلوا الى المفاوضات على افتراض ان لديهم مجالا واسعا للمناورة، بل العكس هو الصحيح. فقد دخلوا المفاوضات وهم يؤمنون بان اساس التنازلات قدموها قبل أن تبدأ مسيرة اوسلو، منذ 1988، حين تبنت م.ت.ف حل الدولتين واعترفت في اعلان المبادىء في حدود 67. وكانت النتيجة عدم تماثل صرف بين الطرفين. وهكذا، في كامب ديفيد، جراء باراك مع مواقف اولية كانت بعيدة جدا عن كل حل يمكن للفلسطينيين أن يقبلوه، وكان على علم بذلك. والنماذج الواضحة هي المواقف الاولية في المجال الاقليمي وفي القدس. فقد طلب الجانب الاسرائيلي ان يضم الى اسرائيل قسما كبيرا من يهودا والسامرة – أكثر من 13.3 في المائة، دون أي تعويض للفلسطينيين، ومواصلة السيطرة لفترة زمنية طويلة  في غور الاردن ايضا، الذي يشكل 10 في المائة اخرى من المساحة باستئجار طويل المدى، وبالاجمال، 23.3 في المائة. وبنفس الشكل، كان الموقف الاولي بالنسبة للقدس هو أن القدس الموحدة بسيادة اسرائيل. وكانت النتيجة انه بدأت عملية سريعة من التراجع الاسرائيلي عن مواقف غير معقولة. وخلق هذا الوضع معضلة لدى الطرف الفلسطيني – فهل من المجدي التوقف او محاولة الحصول على مرونة اسرائيلية اخرى – وبالتالي كان له دافع لمواصلة المفاوضات وعدم الوصول الى اتفاقات توقف تراجع باراك عن مواقفه. لو أن باراك وصل الى المفاوضات مع مواقف أولية أقرب الى خطوطه الحمراء الحقيقية، لدار صراع جبابرة على كل تغيير صغير في المواقف، ولنشأ دافع قوي في الطرفين للوصول الى اتفاق. يمكن بالطبع الادعاء بان المسافة بين الخطوط الحمراء للطرفين لم تسمح بالوصول الى اتفاق، ولكن عندها نعود الى الادعاء الاصلي، في أنه لا ينبغي أن يعقد لقاء بين الزعماء الا عندما تتقلص جدا الفجوة بين مواقف الطرفين. وأخيرا، يطرح ايضا السؤال كيف تعرف الخطوط الحماء. فهذه ليست مطلقة بشكل عام، لان في تحديدها ينبغي التعاطي ليس فقط مع ما هو مرغوب فيه بل مع ما هو ممكن. كما أن الخطوط الحمراء تستوضح في ظل المفاوضات بين الطواقم من الطرفين، وقبل لقاء الزعماء.

 

الابقاء على الزخم – خطأ ثابت آخر كان تجاهل أهمية الابقاء على الزخم – في المفاوضات. في حالات عديدة، بعد النجاح، في مرحلة معينة من المسيرة توقف الزخم، واسرائيل لم تواصل المفاوضات. هكذا كان مثلا بعد أن وقع الاتفاق الانتقالي مع م.ت.ف. ووجهت حكومة اسرائيل اهتمامها الى قناة المفاوضات مع سوريا. وحتى عندما اصبح ايهود باراك رئيسا للوزراء، فضل بداية الانشغال بالمفاوضات مع سوريا، وكذا ايهود اولمرت تبنى في حينه سياسة مشابهة. وخدم فقدان الزخم هدف المعارضين للاتفاق في الطرفين وسهل عليهم العمل ضده. كما كان يتعارض ايضا مع الفكرة المركزية لاعلان المبادىء، وبموجبها بعد خمس سنوات من التوقيع على الاتفاق الانتقالي يفترض بالطرفين أن يوقعا على اتفاق دائم يحل كل المسائل الجوهرية. وقد استوجب الامر الشروع في مفاوضات على الاتفاق الدائم في وقت مبكر قدر الامكان. المفاوضات الحقيقية على الاتفاق الدائم لم تبدأ الا في عهد رئيس الوزراء باراك، بعد ان مرت السنوات الخمسة التي خصصت له، وبعد أن فشلت المحاولة للتوصل الى تسوية مع سوريا. وكان لعملية ابقت على الزخم – تؤدي الى تقدم يظهر بادي العيان على الارض ايضا – احتمال افضل لاداء دوره الاصلي كعملية بناء للثقة.

 

منع التطورات على الارض من ان تضر بفرص الاتفاق – أحد الاسباب الاساس للفجوة العميقة بين الطرفين والتي تمنع استئناف المفاوضات والتقدم فيها هو استمرار المشروع الاستيطاني وتسارعه. احد مظاهر الضعف الاساس لمسيرة اوسلو كان الواقع المريح للتوسع الاستيطاني الذي خلقه الاتفاق الانتقالي، ولا سيما من خلال تقسيم الارض الى مناطق أ و ب و ج. وتقع المنطقة ج في 60 في المائة من اراضي الضفة الغربية، وهي تحت السيطرة الكاملة، المدنية والامنية، لاسرائيل. وخلق هذا التعريف وهما استغله جيدا مؤيدو المشروع الاستيطاني، في أن هذه ارض مسموح لاسرائيل فيها أن تتصرف كما تشاء. ووجد هذا الدليل تعبيره في الحاضر ايضا، في اقتراحات اليمين السياسي لضم مناطق ج الى اسرائيل. واضح أنه لا يوجد اي احتمال للتوصل الى اتفاق مع الفلسطينيين في اطاره يقيموا دولتهم على 40 في المائة من اراضي الضفة فقط. وكان ينبغي على المبادرين لمسيرة اوسلو ان يفهموا التأثير السلبي لهذه التسويات على فرص التوصل الى تسوية في المستقبل والامتناع عن الاستسلام لاغراء ما بدا كحفاظ على أقصى حرية عمل لاسرائيل. عمليا، حرية العمل التي ابقي عليها كانت لتوسيع المشروع الاستيطاني ووضع عراقيل اضافية في الطريق الى التسوية.

 

          الخلاصة

 

          الاستنتاج من التحليل المطروح هنا هو أن البنية الاساس لمسيرة اوسلو، اي الاتفاقات الانتقالية وفي اعقابها المفاوضات على التسوية الدائمة، كان نتيجة اضطرارات سياسية ثقيلة الوزن في الطرف الاسرائيلي، ولم يكن ممكنا البدء بشكل مختلف لمسيرة مفاوضات مع الفلسطينيين توقف الانحدار الى واقع الدولة ثنائية القومية، ولكن لا يعني هذا ان فشلها كان محتما. فقد ارتكبت أخطاء غير قليلة في ادارة المسيرة من جانب الطرفين، ويحتمل أنه لو منعت هذه، لكان يمكن للنتائج ان تكون مختلفة. ويركز المقال على الطرف الاسرائيلي بسبب الرغبة في استخلاص الدروس القابلة للتطبيق.

 

          واضح ان الاستنتاجات تستند الى التعريف السياسي لاهداف اسرائيل لمسيتها السياسية مع الفلسطينيين كما عرضت في بداية المقال، والى الافتراض بانه كان في الطرف الفلسطيني استعداد أساسي للتوصل الى اتفاق، بالطبع – اذا ما استجاب الاتفاق الى احتياجاتهم الحيوية، في نظرهم. وقد وجد هذا الاستعداد تعبيره منذ 1988 في قرار م.ت.ف قبول حل الدولتين، وفي 1992 – في الاستعداد للدخول في مسيرة اوسلو. كل من لا يوافق على هاتين النقطتين، لا بد أنه لن يقبل استنتاجات المقال.

 

 

*  *  *

 

 

 

الازمة السورية – صراع بلا حسم – مَثَلُ النمل والفيل3

 

بقلم: البروفيسور إيال زيسر

 

       في آب 1941 بعد بدء عملية برباروسا ببضعة اسابيع، في حين كان يبدو أن انتصار المانيا النازية مسألة وقت في الأساس، كتب الضابط الالماني العقيد باريند فون كلايست في يومياته: "إن الجيش الالماني في قتاله للروس يشبه فيلا يهجم على جيش من النمل. سيقتل الفيل آلافا منها وقد يقتل ملايين لكنها ستغلبه آخر الامر بجموعها وسيؤكل حتى عظامه".

 

       مقدمة:

 

          إن النار تشتعل في سوريا منذ أكثر من سنتين. وقد انتشر احتجاج فلاحين محدود ومحلي بدأ في المناطق القروية وفي الريف – وهو احتجاج طبقي يقوم في أساسه ازمة اجتماعية واقتصادية – انتشر بل عمّق جذوره حتى أصبح انتفاضة شعبية واسعة النطاق وأصبح آخر الامر حربا أهلية دامية. وعلى مر الايام أصبح للصراع في سوريا صبغة طائفية واسوأ من ذلك أن أصبحت له صبغة دينية أساسها جهاد مجموعات اسلامية من داخل سوريا ومتطوعين يتدفقون على الدولة من أنحاء العالمين العربي والاسلامي جميعا – في مواجهة حكم الكُفر العلوي – حليف ايران وحزب الله الشيعيين.

 

          إن نظرة في خريطة سوريا بعد نحو من سنتين من الصراع بين نظام الحكم ومعارضيه تُظهر الصورة التالية: أولا، فقد النظام السيطرة على المناطق الحدودية مع تركيا ومع العراق بل فقدها بصورة جزئية في المناطق الحدودية مع الاردن ولبنان وسقطت في أكثرها في أيدي المتمردين. وفي مقابل ذلك استولت على المناطق الحدودية في شمالي الدولة حركات كردية تعمل لتُنشيء نظام حكم ذاتي كردي فيها. وثانيا، أخذت منطقة الجزيرة في شرقي الدولة مع حقول غلالها – وحقول النفط والغاز والمياه الجوفية فيها – تخرج عن سيطرة النظام ويسيطر المتمردون على أجزاء منها ولا سيما منطقة الرقة التي كانت المدينة الاولى التي سقطت كاملة في أيدي المتمردين. وثالثا، سقطت حلب وهي عاصمة سوريا الاقتصادية وثاني أكبر مدينة في الدولة في جزء منها في أيدي المتمردين ومعها مناطقها القروية ايضا كالمناطق القروية من إدلب المجاورة ايضا. بل إن الطريق الذي يربط شمال سوريا بجنوبها مشوش ويخضع في جزء منه لسيطرة المتمردين. وإن الصراع على العاصمة دمشق آخر الامر في ذروته لأن النظام لم ينجح في اقتلاع المتمردين من الأرياف المحيطة بالمدينة ومن الجولان وحوران اللذين يخضعان في الأكثر لسيطرة المتمردين.

 

          لكن ظهر الى الآن وهم جميع التقديرات والتنبؤات المدروسة التي قالت إن سقوط النظام السوري مسألة وقت – في ايام معدودة كما في تونس أو اسابيع معدودة كما في مصر أو في بضعة أشهر في الأكثر كما في ليبيا، فما زال النظام السوري يقف على قدميه، حياً يُرزق، بل إنه يرد على الصاع بصاعين. وقد نجح في الحفاظ على تكتله وعلى وحدة الصفوف في الدعامات التي يقوم عليها وهي الجيش وقوات الأمن واجهزة الحكم وحزب البعث، فهي ما زالت تقف من ورائه برغم الأضرار الشديدة التي نزلت بها وبرغم أمواج الانفصال عن صفوفها. وأهم من ذلك أن النظام ما زال يتمتع بتأييد أجزاء مهمة من المجتمع السوري ولا سيما تحالف الأقليات الذي يقوم في أساس سلطته – من أبناء الطائفة العلوية – والى جانبهم ايضا أبناء الطائفة الدرزية والمسيحيون بل جزء من أبناء الطائفة السنية – من أبناء الطبقتين الوسطى والعليا في المدن الكبيرة. وبقي سُنيون من المناطق القروية والأرياف – وهي مناطق تشكل اليوم مراكز الاشتعال في سوريا – واندمجوا في صفوف النظام ويشغلون فيه مناصب رفيعة، بقوا على نحو عام مخلصين له. والى ذلك يتمتع النظام السوري بتأييد قوى ذات وزن في الساحتين الاقليمية والدولية وفي مقدمتها روسيا وايران. ونجح بشار الاسد اذا في البقاء برغم التأبينات الكثيرة له التي سُمعت حتى إن مراقبين كثيرين بدأوا يثيرون امكانية أن يخرج منتصرا من الصراع الدامي الذي هو غارق فيه الآن مع معارضيه.

 

          إن احتلال مدينة الرقة في شمال شرقي سوريا (على مبعدة 550 كم شمال شرق العاصمة دمشق)، في مطلع آذار 2013 – وهي المدينة الاولى التي سقطت كاملة في أيدي المتمردين – لم يكن اذا كما أراد كثيرون أن يُبينوا في حينه علامة طريق ونقطة ذروة في التمرد على النظام السوري تدل على أنه بدأ العد التنازلي لسقوطه. فقد تبين بعد ذلك أن احتلال الرقة كان هو الذروة خاصة وجاء بعده حضيض ورجوع في الثورة. ونجح النظام السوري معززا بمقاتلي حزب الله الذين هبوا لنجدته في الاشهر التي مرت منذ ذلك الحين في صد هجمات المتمردين حول العاصمة دمشق ومدينتي حلب وحمص، بل نجح في أن يُعيد احتلال قرى وبلدات حول هذه المدن – وهي مدن تشكل ثلاثة مراكز ذات أهمية استراتيجية ستُحسم فيها المعركة على سوريا. من هذه البلدات القصير جنوب حمص التي تشرف على الممر من لبنان الى سوريا والتي أعادها مقاتلو حزب الله الى سيطرة النظام السوري في مطلع حزيران 2013.

 

          إن نجاح المنتفضين في الوصول الى مشارف دمشق وحلب، ونجاح بشار الاسد في الوقت نفسه في البقاء برغم التحدي الذي يُعرضونه له بل في أن يستعيد المبادرة في المعركة الآن – هما في واقع الامر وجها الحرب التي تدور اليوم في سوريا. ويعبر هذان الوجهان عن تميز الثورة السورية اذا قيست بأخواتها العربيات. أجل يمكن أن نرى هذه الثورة وأساسها انتفاضة شعبية لأجزاء واسعة من السكان على نظام البعث السوري، وكأنها حرب "النمل المتمرد" لـ "الفيل". إنها حرب "نمل متمرد" مع كل ضعفها ونقصها الراسخ لكن مع نقط قوتها ايضا لـ "الفيل" الذي قوته كبيرة لكنها أصبحت عقبة في طريقه أكثر من مرة.

 

          يتمنى كثيرون أن ينتهي الصراع على سوريا في هذه المرة ايضا كما انتهت "حروب النمل" في الماضي بانتصار "النمل المتمرد" على "الفيل"، لكن الحرب في سوريا الآن هي حرب استنزاف مستمرة لا حسم فيها للنظام السوري خاصة فيها تفوق كبير على معارضيه. يعتمد "النمل المتمرد" في الحقيقة على دعم اجتماعي عميق من السكان السنيين في المناطق القروية وفي الأرياف، التي تُقدم إليهم احتياطيا لا ينفد من المقاتلين المشحونين بالتصميم والمتعطشين الى التغيير والى الانتصار في الأساس على النظام والانتقام منه، لكن نشاطهم ما زال نضال مجموعات بل عصابات مسلحة تعمل في أكثر الاحوال في مناطق سكنها، وتعوزها الوحدة الداخلية ووحدة الصفوف، وتعوزها كذلك قيادة سياسية وعسكرية فعالة قادرة على أن تقودها الى النصر. إن الحقيقة هي أنه يوجد في نشاط المتمردين تأثير متراكم – مهما يكن بطيئا ومتدرجا. فهم مثل "النمل" أو مثل "الجراد" يغطون كل ركن في سوريا، أما يد النظام فتقصر عن استيعاب واحتواء نشاطهم. لكن لما لم يكن عند المتمردين قدرة على توحيد القوى لتوجيه ضربة حاسمة الى عدوهم – النظام في دمشق – فلم يبق لهم سوى أن ينتظروا وأن يأملوا أن يُهزم من ذاته نتاج فقدان دم مستمر أو نتاج التأثير المتراكم لعضاتهم ولدغاتهم. بيد أنه يلاحظ في الاشهر الاخيرة في جانب المتمردين خاصة تعب ويُشعر بيأس من احتمال اسقاط النظام السوري، أما هذا الأخير فتولى زمام المبادرة وأصبحت احتمالات خروجه منتصرا من المواجهة جيدة.

 

       عن "حرب النمل" في سوريا

 

كانت الثورة السورية مثل أخواتها في الدول العربية الاخرى تفجرا شعبيا عفويا مرتبطا بسياق سوري محلي متميز. وقد تلقى المنتفضون في سوريا الالهام في الحقيقة من الثورات العربية في مصر وتونس وليبيا واليمن، ومع ذلك كانت ميزة الثورة السورية وما زالت في أنها احتجاج ذو خلفية اجتماعية اقتصادية، فهي ثورة فلاحين فقراء وجياع للتغيير جاءوا من أبناء الطائفة السنية في المناطق القروية وفي الأرياف.

 

          إن الاحتجاج الذي كانت تعبر عنه في البدء مظاهرات جماعية في ايام الجمعة وايام السبت في أكثر الامر غيّر اتجاهه ووجهه سريعا وبدأ يتخذ صبغة عنيفة – وكان سبب ذلك بقدر غير قليل القسوة التي استعملها النظام على معارضيه نتاج استقرار رأيه على تبني حل قوي للازمة وقمع الاحتجاج عليه بقوة الذراع حتى لو كلف ذلك عشرات ومئات وآلاف القتلى. وبازاء خطوات قمع النظام توقفت مظاهرات الجماهير عليه واختفى المتظاهرون من ساحات القرى وبلدات المحافظات، بيد أنه حلت محلهم مجموعات مسلحين جاءت في الأكثر من القرى في مناطق العصيان والاحتجاج. ونظم هؤلاء أنفسهم لحماية قراهم في واقع فوضى واضطراب سادا الدولة، أو للمس بقوات الامن والجيش بل الانتقام منها لمسها بأقربائهم ورفاقهم. وبدأ ينضم اليهم ايضا جنود وضباط من أبناء المناطق القروية والريفية انفصلوا عن صفوف الجيش وانضم بعد ذلك اليهم ايضا متطوعون بدأوا يتدفقون على الدولة من خارج سوريا. وبدأت هذه المجموعات المسلحة تهاجم مراكز شرطة وقواعد عسكرية وقوات الامن وتهاجم بعد ذلك أهداف بنية تحتية وطرق مواصلات واقعة بالقرب من اماكن سكنهم. وبدأوا آخر الامر يستولون على المناطق القروية والريفية ويحكمونها.

 

          إن الانتفاضات الشعبية التي قادتها مجموعات مسلحة في أنحاء سوريا كلها بدعم عربي وغربي لم تُفض مع ذلك الى سقوط النظام السوري. وقد أضر المتمردون إضرارا شديدا ببنية النظام في دمشق ونجحوا في أن يشلوا سير الحياة العادي في أنحاء الدولة كلها بل نجحوا في الاستيلاء على مناطق واسعة منها. وأحدث رد النظام العنيف ردا متسلسلا كانت نهايته حربا دامية لا حسم فيها. وقد تجاوز عدد القتلى في أيار 2013 الـ 100 ألف ويجب أن نضيف اليهم نحوا من 4 ملايين ونصف مليون لاجيء اضطروا الى مغادرة بيوتهم بسبب المعارك فر أكثر من مليون منهم الى خارج حدود الدولة. وتُقدر أضرار البنية التحتية الاقتصادية في الدولة بنحو من 100 مليار دولار، أي عشرة أضعاف الانتاج المحلي الخام السنوي السوري.

 

          من أهم اسباب نجاح النظام السوري في البقاء فشل المتمردين قبل كل شيء. فقد فشل المنتفضون في سوريا ومؤيدوهم من الخارج أولا في جهودهم لتوحيد الصفوف وانشاء وحدة سياسية وعسكرية بين الجهات السياسية المختلفة والمجموعات العسكرية المسلحة التي تعمل على مواجهة النظام: في الداخل – في ميدان القتال؛ ومن خارج سوريا – في أروقة الفنادق في العواصم العربية والغربية. وفشل أصلا جهد انشاء قيادة سياسية أو عسكرية – سواء أكانت قيادة سياسية بل حكومة جالية، أو قيادة عسكرية تنسق النشاط العسكري الموجه على النظام وتُهييء بديلا حكوميا وحاكما، عن النظام. وقد عُرف في واقع الامر تأثير قليل فقط للمؤسسات السياسية والعسكرية التي عملت بمساعدة وضغط غربيين وعربيين فيما يجري في داخل سوريا: المجلس الوطني الأعلى بقيادة برهان غليون وبعده عبد الباسط سيدا وجورج صبرا ثم بعد ذلك التحالف الوطني بقيادة احمد معاذ الخطيب وبعده احمد العاصي الجربا، وكذلك الحكومة المؤقتة برئاسة غسان هيتو. والى ذلك عمل الجيش السوري الحر بقيادة رياض الاسعد وبعده المجلس العسكري الأعلى بقيادة سليم ادريس.

 

          إن هذه المؤسسات السياسية والعسكرية أعوزها التكتل والشرعية بين المجموعات المسلحة التي تُصارع النظام في داخل سوريا، ولم يكن لها أصلا سيطرة فعالة عليها، وعملت في الأكثر "جسم مظلة" يرمي الى أن يكون قناة لنقل السلاح والمال الى المتمردين، لكنه لم يكن جسم قيادة وزعامة فعالا وعملياتيا. ومن المناسب أن نذكر مع ذلك أنه قد يكون لهذه الأجسام في المستقبل أهمية غير قليلة لكونها جسما تمثيليا نحو الخارج بالنسبة للدول العربية والغربية التي تريد أن تُنشيء بديلا عن النظام السوري، وقد تصبح جسما قد يؤدي دورا في المستقبل للم الشظايا وملء الفراغ الذي قد ينشأ في سوريا اذا انهار نظام بشار الاسد حقا آخر الامر. لكن المتمردين فشلوا الى الآن في جهود توحيد القوى وانشاء جسم أو نظام موحد وفعال عسكري وسياسي أو حكومي يُمكّنهم من أن يعرضوا بديلا عن النظام السوري حتى في المناطق التي سيطر عليها المتمردون ولو جزئيا.

 

          وثانيا، لم يستنفد المنتفضون الدعم الشعبي الواسع الذي تمتعوا به في المناطق التي نشبت فيها الانتفاضات وهي المناطق القروية والريفية والأحياء الفقيرة في المدن الكبيرة. بل إنهم فشلوا في جهودهم لتجاوز قواعد الدعم هذه الى الجمهور السوري بعامة على نحو يُمكنهم من حشد قوة تكون وزنا يُعادل قوة النظام، بل تُمكنهم من أن يهزموه. ولوحظ في الأساس فشلهم في تجنيد تأييد لشأنهم من أبناء الأقليات الذين يبلغون 40 في المائة من عامة سكان الدولة والذين بقي أكثرهم ولا سيما العلويين والدروز والمسيحيين ركيزة داعمة للنظام. وأخطر من ذلك أن المتمردين فشلوا في تجنيد دعم من أبناء الكثرة السنيين ممن يسكنون المدن الكبيرة وبقوا ينظرون مُتنحين الى الثورة حتى حينما بلغت الى حلب والى دمشق.

 

          وثالثا، تحول الثورة في سوريا الى مسار الصراع المسلح والعنيف – ولا سيما المشتمل على عمليات ارهابية موجهة في بعض الحالات على سكان مدنيين (كالعملية في مسجد الايمان في دمشق في شباط 2013 التي قُتل فيها الشيخ محمد سعيد البوطي) – يخدم النظام لأنه يردع كثيرين من الأكثرين الصامتين في الدولة عن المشاركة في الاحتجاج على النظام بسبب اللباس العنيف الذي يرتديه. بل يمكن أن يُحول اولئك الذين أيدوا الاحتجاج في أوله الى جانب النظام السوري الذي يُصور على أنه العامل الوحيد القادر الى الآن على أن يُعيد الى سوريا الاستقرار والأمن الشخصي لمواطني الدولة.

 

          ورابعا، الصبغة الاسلامية المتطرفة لجزء كبير من قوات المتمردين تُبعد عنهم سوريين كثيرين حتى ممن شاركوا في الثورة السورية في بدايتها. وفي مناطق كثيرة سيطر عليها المتمردون أخذوا يُطبقون حكم الشريعة الاسلامية أو يصبغون الحياة اليومية على الأقل بصبغة اسلامية. وأشد من ذلك أنهم يطاردون أبناء الأقليات الدينية ولا سيما المسيحيين، والدروز ايضا والشيعة والعلويين بالطبع. واسوأ من ذلك أن عددا من جماعات المتمردين ليس لها أية صلة أو التزام لسوريا – للارض أو للدولة – وتعرض نفسها على أنها تريد أن تدفع قدما ببرنامج عمل اسلامي عام يرمي الى انشاء دولة اسلامية في الشرق العربي. وفي ذلك ايضا ما يُبعد عنهم سوريين كثيرين حتى من اولئك الذين عارضوا النظام السوري في الماضي معارضة شديدة.

 

          يمكن أن نشير بين القوى المقاتلة في داخل سوريا الى ثلاثة معسكرات رئيسة يمكن أن ننسب إليها، وإن يكن ذلك بصورة ضعيفة، كل المجموعات المحاربة اليوم في سوريا: الأول معسكر تنتمي إليه منظمات اسلامية سلفية متطرفة أبرزها "جبهة نُصرة أهل الشام". والحديث في واقع الامر عن الفرع السوري من منظمة القاعدة والذي يُقدر عدد أفراده بنحو من 10 آلاف انسان. وتُذكر معه ايضا الجبهة الاسلامية السورية التي هي تحالف مجموعات مسلحة ذات ميل اسلامي مثل "أحرار الشام" تعمل في أنحاء سوريا كلها، و"كتائب الحق" التي تعمل في حماة و"جيش التوحيد" الذي يعمل في دير الزور وغير ذلك. ويبلغ عدد المحاربين في كل واحدة من هذه المجموعات بضعة آلاف.

 

          إن كل المجموعات التي تنتمي الى هذا المعسكر يُنظر إليها في الأكثر أنها أكثر نظاما وأفضل تسليحا وأكبر انضباطا ايضا من المجموعات المسلحة الاخرى التي تعمل في سوريا. وتتمتع بتيار لا ينقطع من المتطوعين من أنحاء العالم العربي والاسلامي كلها. ويُقدر عدد هؤلاء المتطوعين ببضعة آلاف. ونجحت هذه المجموعات في الاستيلاء على مناطق في محافظات حلب وإدلب ودرعا وتقود ايضا، ولا سيما جبهة النُصرة، العمليات الارهابية الموجهة على النظام ومواليه.

 

والثاني معسكر يشمل مجموعات تنتمي الى الاخوان المسلمين السوريين أو تؤيد حركات اسلامية معتدلة. ويُنظر إليها في الأكثر ايضا على أنها مجموعات منضبطة ومنظمة بل نجحت في احراز سيطرة على مناطق مختلفة في شمال الدولة وجنوبها. وقد وحدت هذه المجموعات الصفوف في اطار جبهة التحرير الاسلامية السورية التي يبلغ عدد اعضائها من المحاربين عشرات الآلاف وتحظى بدعم سعودي. إن جبهة التحرير الاسلامية السورية بخلاف جبهة النُصرة أو الجبهة الاسلامية السورية ترى نفسها مرتبطة بمؤسسات المعارضة وعلى رأسها التحالف الوطني.

 

والثالث معسكر يشمل مجموعات توجد بينها صلات وإن تكن ضعيفة احيانا، وهي تقع في واقع الامر تحت مظلة الجيش السوري الحر. وتقوم هذه المجموعات على جنود وضباط انشقوا عن جيش بشار الاسد، أو على مجموعات نظمت نفسها في مناطق سكنها في قرى وبلدات المحافظات في المناطق الريفية في كل أنحاء سوريا. وهذه المجموعات تعوزها هوية اسلامية واضحة سافرة. ويبلغ عدد أفراد المجموعات التي تنتمي الى الجيش السوري الحر نحوا من 50 ألف مقاتل وربما أقل من ذلك.

 

من المهم أن نعود ونؤكد الطابع المحلي لنشاط كل واحدة من المجموعات التي تعمل في سوريا. تفضل المجموعات والجهات المحلية هذه احيانا أن تصبغ نفسها في الحقيقة بصبغة اسلامية أو غيرها للحصول على مساعدة مالية وسلاح، لكن ذلك لا يشهد بالضرورة على صلة أو التزام. بل لا يشهد على انتماء تنظيمي الى المعسكرات الاسلامية – سواء أكان المعسكر الأكثر تطرفا أو معسكر الاخوان المسلمين. وقد سُجل قدر ما من التنسيق، محدود في الأكثر، مع كل ذلك في عدد من المناطق. فعلى سبيل المثال تمت المعركة على مدينة الرقة في آذار 2013 بتنسيق وتعاون بين المجموعات المختلفة وهو شيء أفضى الى سقوط المدينة في أيدي المتمردين حقا. وأُنشئت في حلب وحماة وحمص ودرعا ايضا مجالس عسكرية مشتركة تحاول تنسيق اجراءات المجموعات المقاتلة، لكن الحديث عن أجسام تنسيق ضعيفة لا عن قيادة عسكرية فعالة، وعلى كل حال فان أجسام التنسيق هذه لا معنى لها يتجاوز المنطقة التي تعمل فيها. إن "جبهة النُصرة" هي منظمة تعمل في الحقيقة على نحو أكثر تنظيما وتنسيقا لكونها فرعا سوريا من منظمة القاعدة، لكن الحديث آخر الامر عن مركب واحد من فسيفساء سورية أوسع وأكبر كثيرا.

 

إن ضعف المتمردين هو بالنسبة إليهم مع كل ذلك – مع ما في هذا من التناقض – مصدر قوة لأن حقيقة أنه ليس الحديث عن جيش أو عصابة عسكرية منظمة بل عن مجموعات مسلحة تعمل بصورة مستقلة ولكل واحدة منها برنامج عمل خاص، يجعل من الصعب على النظام السوري أن يواجهها. أجل، إن الجيش السوري النظامي لا يواجهه عدو حقيقي ذو أجهزة منظمة يملك مواقع سيطرة وقيادة ومعسكرات ومنشآت لوجستية تكون كلها أهدافا عسكرية يمكن تحديدها وضربها. إن الحديث بدل ذلك عن عصابات مسلحة تظهر للناظر وتختفي بعد ذلك فورا وتهرب سريعا الى المناطق القروية التي جاءت منها.

 

          وفي مقابل ذلك خلص بشار الاسد مثل قائد حزب الله حسن نصر الله في حينه في اثناء حرب لبنان الثانية في سنة 2006 الى استنتاج أن نصره سيُحرز في الأساس اذا بقي في الحكم بعد انتهاء الازمة أو في قصره في دمشق اذا شئنا الدقة، ومن هنا فان استراتيجيته موجهة الى الثبات بكل ثمن الى أن يتعب أعداؤه ويقنطوا، والمنتصر هو آخر من يبقى في ميدان القتال. واستراتيجية النظام محصورة اذا في الدفاع بكل القوة وبكل ثمن عن دمشق وحلب اللتين هما العمود الفقري للدولة السورية، وعن منطقتي حمص وحماة ايضا الواقعتين على الطريق الذي يربط حلب بدمشق، ويربط هاتين المدينتين بالساحل السوري وهو منطقة العلويين – حصن النظام – ويربطها ايضا بموانيء طرطوس وبانياس واللاذقية، وهي مصادر المساعدة والامداد الحيوية جدا للنظام. والى ذلك يحاول النظام أن يحتفظ بالسيطرة على المناطق الحدودية ولا سيما تلك التي على الحدود مع لبنان ومع الاردن، ومن هنا تأتي أهمية مدينة درعا بالنسبة إليه، والمناطق الحدودية ايضا مع تركيا ومع العراق لكن بقدر أقل بسبب البعد عن دمشق.

 

          ونقول اختصارا إن نجاح الثورات في الدول العربية المختلفة جعل كثيرين يُقدرون أن الثورة ستنتصر في سوريا آخر الامر ايضا وأن بشار الاسد لن يستطيع أن يتجاوز الانتفاضة على نظامه، ولهذا فان سقوطه هو في الأساس أمر محتوم تاريخي وهو مسألة وقت أصلا. لكن بشار الاسد أثبت منعة وقدرة على الصمود الشخصي وكذلك ايضا نظامه الذي نجح في الحفاظ على التكتل وعلى وحدة صفوفه وعلى التأييد الذي يتمتع به في الأساس من أجزاء من المجتمع السوري.

 

          إن لنشاط مجموعات المتمردين المسلحة في الحقيقة تأثيرا متراكما مهما يكن بطيئا ومتدرجا. فهم كالنمل أو كالجراد يغطون كل ركن في سوريا، أما النظام فعاجز عن صد نشاطهم واحتوائه. بيد أن النظام السوري يأمل من جهته أن تختفي أسراب المتمردين كأسراب الجراد التي تختفي بنفس الصورة المفاجئة غير المفسرة التي تظهر بها، ويأمل على الأقل أن يتعب المتمردون حينما يتأكد لديهم أن كل جهودهم كانت عبثا وأن النظام ما زال يقف على قدميه. ويأمل النظام ايضا أن يكف السكان المستنزفون عن دعم المتمردين بل أن يتخلوا عنهم بسبب طبيعتهم المتطرفة وعدم الأمن والارهاب الذي يجلبونه معهم الى أنحاء سوريا كلها. ويأمل النظام آخر الامر أن تكف تلك الدول العربية والغربية التي تدعم المتمردين عن دعمها حينما تخلص الى استنتاج أن المتمردين غير قادرين على اسقاط النظام السوري.

 

          في السنتين الأوليين من الثورة السورية كان الاتجاه مسارا واحدا في غير مصلحة النظام. لكن يبدو أن المتمردين قد بلغوا في الاشهر الاخيرة الى "السقف الزجاجي" الذي يصعب عليهم أن يحطموه. إن ضعفهم الراسخ وفشلهم في توحيد القوى والتعب والارهاق في صفوفهم بل التغيير الذي أخذ يلوح في المزاج العام في الشارع السوري أعاد رؤية النظام الضامن الوحيد لاعادة الاستقرار والأمن الى الدولة – فلا عجب أن يقوى بازاء كل ذلك تقدير الخبراء والمحللين أن يستطيع النظام البقاء برغم الثورة التي نشبت عليه وأن يقدر "الفيل" في نهاية المطاف على "النمل"، وفي هذه الحال لن يصعب على بشار الاسد أن يعود الى فرض سلطته على أنحاء الدولة.

 

          أما فيما يتعلق باسرائيل فانها ما زال يصعب عليها أن تبت أمرها أهي معنية ببقاء بشار الاسد على كرسيه لكونه "الشيطان المعروف" الذي يحرص على الحفاظ على الهدوء على طول الحدود المشتركة بين الدولتين لأنه قد تحل محله جهات اسلامية متطرفة تنشر الفوضى والارهاب على حدود اسرائيل الشمالية. وقد تكون المصلحة الاسرائيلية أن ترى سقوط الاسد وهو شيء قد يوجه ضربة شديدة الى "محور الشر" الذي يشارك فيه الى جانب بشار حزب الله وايران ايضا. وعلى كل حال لا تستطيع اسرائيل أن تؤثر في سير الأحداث في سوريا، لكن بازاء التحول الذي أخذ يلوح في المعركة في هذه الدولة والذي قد يجلب لبشار الانتصار أسرع مما يُقدرون في القدس، قد تجد اسرائيل نفسها تواجه بشارا مختلفا عما عرفت يكون حاكما واثقا بنفسه وأكثر تعلقا مما كان في الماضي بايران وحزب الله ويكون متحررا في الأساس من الضرورات التي أوجبت عليه أن يُظهر ضبط النفس في الساحتين اللبنانية والاردنية وفي مواجهة اسرائيل.

 

 

*  *  *

 



1 "تقدير استراتيجي"، المجلد 16، العدد 2، تموز 2013، معهد بحوث الامن القومي، جامعة تل ابيب.

2 "تقدير استراتيجي"، المجلد 16، العدد 2، تموز 2013، معهد بحوث الامن القومي، جامعة تل ابيب.

3 "تقدير استراتيجي"، المجلد 16، العدد 2، تموز 2013، معهد بحوث الامن القومي، جامعة تل ابيب.