القدس بين أجندة الشعار وانعدام الفعل الاجتماعي 17-1-2006
مقالات عطا القيمري
كتب بتاريخ: 17 /كانون الثاني / 2006
* * *
القدس بين أجندة الشعار وانعدام الفعل الإجتماعي
بقلم :عطا القيمري
كانت ولا تزال الإنتخابات الفلسطينية في القدس في غاية الإشكالية. فبينما يتمسك الخصمان في النزاع الفلسطيني - الإسرائيلي كل بالقدس عاصمة له ومركزا لاهتمامه السياسي يضيع أهل القدس العرب بين واقع السيطرة الفعلية لاسرائيل على مصيرهم والتطلع الفلسطيني العام لان تكون القدس المركز لفعلهم السياسي. وفي ظل ما يسود الحملة الانتخابية الفلسطينية من أجندة اجتماعية، فان الانتخابات في القدس لا تعود سوى تعبير سياسي عن طموح سياسي غامض تبدو آفاقه بعيدة.
الإشكالية الأساس للانتخابات في القدس هي أن الناس ينتخبون ممثليهم الى مجلس يسمى تشريعي ولكنه لا يملك أي صلاحيات تشريعية تتعلق بواقع حياتهم. وهذه الإشكالية تنبع من الترتيب السياسي الذي خرجت فيه اتفاقات اوسلو في موضوع القدس، إذ ارجأت البحث فيه إلى مفاوضات التسوية الدائمة وأوجدت صيغة يمكن للطرفين أن يدعيا بموجبها عدم التخلي كل عن مطلبه في أن تكون القدس له. فمن ناحية إسرائيل، لا يعتبر تصويت السكان في شرقي القدس لمجلس الحكم الذاتي الفلسطيني ضم القدس الى مجال صلاحية هذا المجلس. أما من الناحية الفلسطينية فكان التصويت إشارة إلى إنتماء السكان ومدينتهم إلى الكيان الفلسطيني، الدولة الفلسطينية التي يفترض أن تقوم إثر الاتفاق على التسوية الدائمة. وهكذا خرج الطرفان كل سعيد بنصيبه، على المستوى السياسي، أي على مستوى مواصلة الصراع بينهما للمطالبة بالقدس من جهة الفلسطينيين، ولكن مع بقائها تحت السيطرة الفعلية، أو ما تسميه اسرائيل السيادة في كل أجزاء القدس كعاصمة أبدية لها، من جهة إسرائيل.
وكان يمكن لهذا الترتيب الذي لم يشارك فيه أهل القدس ولم يقرروه مدخلا مناسبا لانتقال القدس الشرقية لتكون عاصمة الدولة الفلسطينية بعد الاتفاق على التسوية الدائمة التي افترضتها اوسلو في ختام خمسة أعوام المرحلة الانتقالية. غير أن غياب التسوية الدائمة، بل وانهيار المفاوضات التي دارت بشأنها، وتتوج الصراع السياسي فيما سمي بانتفاضة الاقصى وبناء جدار الفصل قد عاد ليجعل من هذا الترتيب تضليلا سياسيا واجحافا إنسانيا من الدرجة الأولى بحق أهل القدس.
من ناحية إسرائيل، فان مشاركة أهل القدس في الانتخابات الفلسطينية تعفيها من تهمة حرمان جمهور واسع ممن يسكنون ويعيشون ويدفعون الضرائب ويخضعون لإمرتها في المنطقة التي تدعي أنها عاصمتها الأبدية من أدنى حقوقهم السياسية، وتعفيها مما يمكن لهذا الكم العربي الكبير من أثر على ميزانها الديمغرافي الداخلي. فهم حاضرون غائبون في نفس الوقت. يمكن ضمهم إلى عدد العرب الذين يعيشون في إسرائيل لغرض إخافة الجمهور من البعبع الديمغرافي عند الحاجة، ويمكن استثناءهم دوما من اعداد السكان الذين يصوتون ويؤثرون تأثيرا فعليا في السلطة السياسية في إسرائيل.
من ناحية السلطة الفلسطينية، فان مشاركة أهل القدس في الانتخابات هي شهادة براءة ذمة على أنها لم تتخلى عن القدس وأنها لا تزال تضعها على رأس جدول أعمالها السياسي كعاصمة مستقبلية لكل كيان سياسي ستقيمه في المستقبل.
ولا يقتصر الاستغلال السياسي لمسألة مشاركة أهل القدس على المستوى المبدئي، بل يتعداه الى المستوى التفصيلي. فبينما تعمل اسرائيل حتى عند الموافقة المبدئية على هذه المشاركة الى عرقلتها وتضييقها وتقليص حجمها بكل الوسائل الممكنة. وذلك كي تدعي لاحقا أن أهل القدس صوتوا بأقدامهم بمعنى أنهم فروا من التصويت وبالتالي فإنهم في كل مناسبة لاحقة لاستفتاء رأيهم حول مصيرهم سيختارون بقاء إسرائيل سيدة في مدينتهم على الانضمام الى الكيان الفلسطيني الذي تُشهّر به في اوساطهم ككيان غير ديمقراطي. وهي تستخدم لهذا الغرض أساليب عديدة. فهي تفرض ترتيبات تُضيق وتمنع السكان من المشاركة في الانتخابات فتحصر عدد المصوتين في مركز المدينة بستة محطات بريدية لا تشمل القوائم فيها أكثر من 5 الاف صاحب حق اقتراع فيما تطلب من باقي أصحاب حق الاقتراع التوجه الى مراكز اقتراع خارج نطاق القدس كما تراه في تصورها باتجاه القرى والأحياء المحيطة بالقدس، الكثيفة بالسكان الفلسطينيين والتي لا تراها هي جزءاً من القدس كـ أبو ديس، الرام وغيرها. كما أنها تبث الشائعات في أن من يشارك في الانتخابات سيفقد حقوقه المدنية والاجتماعية في القدس وستسحب هويته التي تتيح له حق الاقامة في القدس وغيرها من أساليب التخويف والترهيب. وهكذا تكون النتيجة مشاركة ضئيلة لاهل القدس في الانتخابات مما يعزز تضليلا الادعاء بأن أهل القدس لا يختارون ولا يحبذون ان يكونوا جزءاً من الدولة الفلسطينية. وهكذا يصبح تصويت أهل القدس معركة سياسية اخرى بين إسرائيل والحركة الوطنية الفلسطينية، بما فيها السلطة الفلسطينية ذاتها، ولا سيما انها تأتي بعد اقامة الجدار الذي يفصل القدس عن باقي أجزاء الضفة، وإصرار اسرائيل على اخراج القدس من كل حديث سياسي، وسيادة الاجراءات الأحادية الجانب كسبيل للتوصل الى الحلول السياسية.
ويتخذ تصويت أهل القدس في الانتخابات الحالية للمجلس التشريعي الفلسطيني بُعدا سياسيا مميزا آخر في الظروف السياسية الراهنة. فقد بدا لفترة ما للمراقبين والمشاركين في هذا الواقع أنه قد لا تكون هناك "جدوى" سياسية من إجراء إنتخابات للسلطة الفلسطينية على سبيل الاصلاح الديمقراطي المفروض بموجب خريطة الطريق الدولية، إذا كانت النتيجة ستجلب الى السلطة حركة ترفض التسوية السلمية وتدافع عن استمرار الصراع بدل التفاوض والمصالحة. وقد اشتد هذا التقدير بتعزيز من استطلاعات الرأي العام التي أخذت ترفع باستمرار نصيب حماس من التمثيل في المجلس، وهبوط آمال فتح في الانتصار في ظل ما تعانيه من فوضى وتمزق. وهنا تأتي القدس لتكون مرة اخرى موضع للاستغلال السياسي بين الطرفين. فتلك الدوائر في الاوساط الفلسطينية التي كانت ترغب في تأجيل الانتخابات حتى تتجاوز محنتها قد روجت لفكرة انه لا يجب خوض الانتخابات اذا ما منعت إسرائيل مشاركة أهل القدس فيها. وشاركت اسرائيل ولا تزال في هذه اللعبة ولكن بتردد وعدم وضوح. فهي تارة تعلن السماح لسكان القدس بالمشاركة وتارة اخرى تعلن أنها ستمنعها أو تقيدها. وهي تستخدم مشاركة حماس في الانتخابات كمبرر لمواقفها المختلفة. وحتى عندما قررت أخيرا السماح بمشاركة مقيدة لاهل القدس في الانتخابات فقد ارفقت بالقرار موقفا وممارسة تمنع حماس من المشاركة فيها، فاعتقلت رجالها وحظرت دعايتها واقتحمت بعض المكاتب التي تدعي أنها تمثلها.
وفي واقع الأمر فان موقف اسرائيل غير واضح ومتذبذب ولا تبدو فيه أنها تعرف ماذا تريد. فهل هي ترغب حقا في أن تمنح تلك الدوائر الفلسطينية الداعية الى تأجيل الانتخابات المساعدة لتنفيذ مبتغاها أم أنها تريد لهذه الانتخابات أن تتم بالفعل بغض النظر عن نتائجها كتحقيق لمصلحة التحول الديمقراطي الفلسطيني الذي يمهد السبيل للسلام معها حتى لو انتصرت فيه حماس. ففي الحالتين، انتصار حماس أو عدمه يخدم هذه المصلحة؛ اذا انتصرت يمكن لاسرائيل أن تدعي أنه لا يوجد شريك وأن الطرف المسيطر في الجانب الآخر يرفض التفاوض والمساومة ولا يعترف بها ويسعى الى تدميرها فتواصل سياستها احادية الجانب التي بدأتها مع شارون؛ واذا لم تنتصر حماس فإن مجرد وجودها في البرلمان الفلسطيني يساهم في التحويل السياسي لهذه الحركة وبالتالي يخدم مصلحة السلام على المستوى المتوسط والبعيد.
ولكن يبدو أن إسرائيل يهمها مواصلة أشكال الصراع المختلفة مع الفلسطينيين بغض النظر عن المصالح بعيدة المدى لاسرائيل ذاتها. فإسرائيل - الليكود أو كديما ترى في ابقاء القدس تحت سيطرتها سواء شارك أهلها في الانتخابات الفلسطينية أم لم يشارك هي المصلحة العليا لإسرائيل ولا يهمها في هذا السياق سوى ألا تتهمها الأسرة الدولية في أنها هي التي كانت المسبب في الغاء او إرجاء الانتخابات الفلسطينية. وأغلب الظن أنها ستسمح بالتصويت ولكنها ستضيق عليه وتخنقه وتحصره وتقيده لدرجة لا تصل الى المنع التام.
وكفلسطيني أعيش في القدس ينتابني شعور بالاحباط الشديد في هذه الانتخابات التي اُشارك فيها مع وقف التنفيذ. فأنا أرغب في أن أكون جزءاً فاعلا في تقرير مصير شعبي وكيانه السياسي واختيار الأفضل بين قياداته تحقيقا للحكم الصالح، الديمقراطية، الشفافية من جهة وتحقيقا لاستراتيجية وطنية قادرة على الاجتياز بنا هذه المرحلة الخطيرة نحو إقامة الدولة الفلسطينية في المستقبل. ولكن في ظل سيادة الاجندة الاجتماعية على هذه الانتخابات وليس الوطنية، فإنه يبدو أننا ننتخب القيادة التي ستدير شؤون المجتمع وبالتالي نحتاج الى اختيارها على أساس النقاء والصلاح، وليس القيادة التي ستدير الصراع وتأتي لنا بالدولة وبالتالي سنحتاج الى أن نختارها على أساس النجاعة والقبول الدولي.
وفي ظل غياب الأجندة الوطنية وسيادة الاجندة الاجتماعية فان أهل القدس ينتخبون قيادة ليس لها برنامج عملي لتحريرهم، وحكما لن يكون له أي صلاحية في تقرير أوضاعهم الاجتماعية.
القدس 17/1/2006
القدس
* انتهـى *