Al-Masdar One

   

مقالات عطا القيمري

كتب بتاريخ: 26 /آب / 2006

 

 *  *  *

 

الأوراق المختلطة

بقلم: عطا القيمري

في معمعان الاحتفالات بالنصر للانسحاب الاسرائيلي الذي شمل الجيش والمستوطنين، وإن لم يكتمل بتحرير البحر والجو والمعابر، تشوشت العديد من المسائل ذات الأبعاد الاستراتيجية في الكفاح الفلسطيني من أجل الحرية والاستقلال. وفي كثير من الأحيان حلّت الأماني محل الواقع/ وصارت ردود الفعل تنبع من التطلعات بدل التحليلات والرغبات بدلا من التقديرات السياسية المحسوبة جيداً.

ولا بُد، بعد الجولة الأخيرة، غير المُثنية على نحو خاص، في المناوشات على حدود القطاع وتعمد اسرائيل أخذ المبادرة الهجومية في الضفة، من مراجعة بعض الحسابات قبل الشروع في الإجابة على ما تفرضه المرحلة القادمة من تساؤلات ووضع السياسة الملائمة لمواجهة ما تفترضه من تحديات.

تنافسنا شديد المنافسة على عزو الانسحاب من غزة كلٌ الى صالحه، حتى غابت الحقيقة الاستراتيجية الهامة في أنه ربما نصف الانسحاب، إن لم يكن أكثر من ذلك، جاء لاعتبارات استراتيجية اسرائيلية محضة. فقُلنا وشددنا على أنهم انسحبوا فقط تحت ضربات المقاومة. لا بُد أنه كان للمقاومة دور هام في دفع اسرائيل الى التفكير في إعادة الانتشار وتوضيب وتقصير حدود المواجهة وإعادة ترتيب فسيفساء الجغرافيا السياسية - الديمغرافية، ولكنها لم تكن الاعتبار الوحيد. ففي احصاء اسرائيلي جاء ان عدد القتلى الاسرائيليين من مدنيين وعسكريين على مدى 38 عاما من الاحتلال كان 265 شخصا. أي أقل من عشرة في السنة. وقد غادرت اسرائيل القطاع، بالمليون ونيف من السكان فيه، بعد أن استغلت أرضه وشعبه قرابة نصف قرن دون أي تعويض أو تحمل للمسؤولية أو اتفاق على سيادته واستقلاله.

ومن هنا، من المبالغة في تقدير الدور الذاتي في تحقيق هذا الانجاز، وهو انجاز حقاً ويجب الفرح له والإيفاء بكل متطلباته من عمل وجهد ومواجهة للتحديات، يأتي التأكيد على أن المقاومة وحدها، وبالذات الشكل المسلح منها، هي التي ليس فقط أخرجت اسرائيل من القطاع، بل وستُخرجها من الضفة. وهذا استنتاج في أقل تقدير متسرع لا يأخذ التجربة، في الانتفاضة الحالية، وفي كامل التجربة المسلحة الفلسطينية، بالدراسة التي تستحقها. إذ أنه ينبغي الرد على السؤال هل المواجهة المسلحة، بما فيها من عنف، وعمليات وغيره، هي الطريق السليم لإلحاق الهزيمة باسرائيل؟ ودون أن ندخل في تفاصيل هذا التقدير، فانه على الأقل يمكن القول إن ساحة الصراع المسلح هي الساحة المفضلة على اسرائيل والتي تتفوق فيها علينا بأضعاف مضاعفة. وهذه بالطبع ليست دعوة الى اليأس والتنازل عن الأهداف، بل دعوة الى إعمال الفِكر واحترام التجربة الذاتية لاستخلاص الوسائل الكفاحية المناسبة لتحقيق هذه الأهداف، لا مواصلة طريق سبَق لها أن فشلت. وهنا لا بُد لنا أن نُذكر أنفسنا جميعا بالأسباب التي دعتنا أصلا الى أن نتخذ التهدئة نهجاً سياسياً بات ثابتاً منذ أول هذا العام.

مسألة الجغرافيا - السياسية الفلسطينية تعاني هي الاخرى من التشويش. فتحت ضغط الرغبة الشديدة في أن نُفشل مؤامرة اسرائيل لفصل الضفة عن القطاع، بتنا في القطاع مستعدين لأن ندعي حقنا في تحرير الضفة. وعلاوة على ما في هذا من تقليل لشأن الكفاح الذاتي للضفة، فانه يتناقض أصلا وكل الفكرة التي قبعت خلف انتفاضاتنا، في أننا لن نتحرر من الخارج، بل بقوانا الذاتية، وبها فقط. أردنا أن نفرض معادلة تقضي بأن كل حدث في الضفة يكون من حق القطاع أن يرد عليه، متجاهلين، وايضا في غمرة الرغبة في عدم فصل شقي الوطن، ما طرأ حقاً على القطاع من تحوّل في المكانة، على كافة الأصعدة. كما أردنا أن نفرض معادلة اخرى بهذا الشأن مفادها أن الضفة ستكون هي مركز الفِعل الكفاحي لنا بعد القطاع. فبدأت اسرائيل تشرع في سلب المبادرة بالهجوم على الضفة، متحدية إياها، ومستفِزة القطاع للرد كي تقتص من الجهتين معاً. وهي في واقع الحال يعجبها ويفيدها ما تُسميه هي نفسها ضجيج الصواريخ كي تُحقق شرعية ردّ ساحق مشفوع بتأييد وعطف وتفهم سياسي دولي كبير.

وثالثة الأثافي في هذا الخلط السياسي هي إحلال الرغبة في استئناف المفاوضات كسبيل لتواصل الانسحاب الاسرائيلي من الضفة ايضا على طريق تحقيق الدولة الفلسطينية، محل الواقع الذي يجعل مما قررته اسرائيل من اجراءات أحادية الجانب شعار العصر، وإن كانت تُقدم خدمة كلامية مجردة لخريطة الطريق. هذا الواقع يقول اليوم إنه لا يفكر أحد في العالم أن تبادر اسرائيل، أو أن يطالبها بأن تبادر، الى خطوة اخرى كالتي قدمتها في القطاع سريعا، وذلك بالنظر الى الساحة السياسية الاسرائيلية الداخلية، والى ما يفترضه الانسحاب من إحالة عبء البرهان الى الجانب الفلسطيني، سواء في تحمل المسؤولية في ادارة ما ناله من أرض، أو في الإيفاء بمتطلبات خريطة الطريق ذاتها.

الأوراق الثلاث آنفة الذكر: غزة والضفة، المقاومة المسلحة وغير المسلحة، المفاوضات والخطوات أحادية الجانب - هي المحكات والتحديات الأساس للشعب الفلسطيني في هذه المرحلة.

يمكن واقعيا وسياسيا أن يكون للشعب الفلسطيني سياستين مختلفتين في المنطقتين المختلفتي المكانة والواقع، دون خلط الأوراق بينهما.

يمكن واقعيا مواصلة الكفاح الوطني والسياسي المشروع لتحرير الضفة والقدس دون استخفاف بالتجربة التاريخية لما في الكفاح المسلح من مساوىء وعِلات.

وأخيرا، يمكن للشعب الفلسطيني أن تكون له خطوات أحادية الجانب تدفع الى الأمام أهدافه الوطنية بدلا من الغرق في التفكير الرغبوي في دفع اسرائيل الى مفاوضات، لن تدخلها وستعمد الى ألا تدخلها بكل وسائل الاستفزاز التي تمارسها اليوم كي نواصل نحن العنف المسلح، الذي ستُدينه هي والعالم ارهابا وتُشرّع به عدوانا وخطوات أحادية الجانب تفرض واقعا سياسيا، وجغرافيا وسكانيا لن يكون في صالحنا.

القدس 26/8/2005

 

 

     انتهـى         *