Al-Masdar One

   

مقالات عطا القيمري

كتب بتاريخ: 22 /تشرين الأول / 2004

 

 *  *  *


 مقالات

السياقات التاريخية وعناد العدل

بقلم: عطا القيمري

          منذ أن أتخذ القرار في المحافل الإستراتيجية لإسرائيل في خطة فك الإرتباط وتبناه رئيس الوزراء أريئيل شارون، حتى بلغت الخطة هذه اللحظة التي أجمعت فيها معظم الاحزاب في إسرائيل، على جانبي الطيف السياسي، بالتجاوز لفواصل المعارضة والائتلاف، اليسار واليمين، على تأييدها والمساهمة في تحقيقها، إجتازت  مسيرة طويلة بالغة التعقيد.

          فقد إستقبل العالم، في إسرائيل، في فلسطين وفي باقي المحافل ذات الصلة، إقليميا وعالميا، خطة فك الارتباط، بمشاعر من الشك والريبة أساسا. فهي على نحو ظاهر تتضارب وكل الصورة التي إتخذها شارون بصفته أب الاستيطان ورمز الاحتلال والسيطرة والقضم المتواصل لاراضي الفلسطينيين. وكان الأقرب الى الطبيعي أن تعتبر هذه مجرد مناورة إعلامية وسياسية تستهدف كل شيء عدا التحقق الواقعي لها.

          ولكن سرعان ما تحول الموقف رويدا رويدا من الشك الى المراهنة والثقة المشروطة حتى بلغ مستوى الثقة بالنية مع الشك باحتمال التطبيق، ليصل أخيرا الى الثقة التي تقترب من اليقين في أن هذه الخطة هي نوع من القدر الذي لا مرد له. حتى المستوطنين باتوا على يقين من ذلك لدرجة أنهم يعتبرون الآن مواجهة الخطة قضية حياة أو موت، ويعصف في الساحة الإسرائيلية ما يشبه الإعصار السياسي الذي يضرب كل وجوه الحياة ويشوش معايير النظام السياسي المستقر.

          أما اليسار الإسرائيلي، فقد لعب حتى وقت متأخر مضى لعبة الكرامة وواصل مناكفة شارون على أساس الشك في النوايا والتشكيك في القدرة على التطبيق وفي الأمل - الوهم في أنه إذا ما سقطت هذه الخطة فلن يتبقى في الساحة غير البديل الذي يطرحه هو. وأخيرا وجد نفسه مضطرا أو قابلا لهذا القضاء الذي بات مقتنعا بأنه لا بد منه كخطوة على طريق تحقيق بديله هو او على سبيل تحريك أي وضع هو أفضل من بقاء الجمود السياسي في الصراع المتبادل.

          مسيرة مشابهة إجتازها الفلسطينيون أيضا في الموقف من خطة فك الارتباط. فمن الشك الى المواجهة إنتقل الفلسطينيون في الموقف من خطة شارون لفك الارتباط. أي أنهم اجتازوا ذات المسيرة التي اجتازها اليمين الاسرائيلي الاستيطاني، ولم يصلوا الى ما توصل اليه اليسار الاسرائيلي من وجوب التأقلم مع الخطة بدل مواجهتها واحباطها.

          واضح أنه كان لخطة شارون إعتبارات تكتيكية، سياسية وإعلامية. وواضح أنه تحركها حوافز ومطامع إستراتيجية بعيدة المدى. وأظن أن من السذاجة بمكان أن يعزو المرء لخصمه إنعدام العقل السليم. كما أنه بذات القدر من السذاجة ان يلجأ المرء إلى الاستنتاج بأن شارون قد إنهار وبات مستعدا لان ينسحب تعبا ومهزوما  تحت ضغط الصراع المتواصل .

          ومثل كل السياقات الكبيرة في التاريخ، فان فيها ما ينطوي على تفرع هائل في دروب تواصلها. فقد تبدأ في شكل ما لتنتهي في شكل آخر مغاير تماما. وذلك بناء على تداخل أثر القوى والعوامل المختلفة الفاعلة فيها والدافعة لها لاتخاذ دروب فرعية تنشأ عن طريقها المركزي الأساس. بمعنى أن خطة فك الارتباط في ظروف معينة قد تحقق الهدف الإستراتيجي الذي جاءت أصلا لتحققه: تبادل إنسحاب جزئي في منطقة إشكالية هي القطاع مع إنجاز إقليمي وسياسي تاريخي في باقي المناطق المرغوبة هي الضفة. وقد تكون في ظروف اخرى مدخلا لتواصل الانسحاب والتراجع حتى في الضفة نفسها.

          ومهما يكن من أمر، فان ما يبدو هو أن فك الإرتباط المتبلور في إسرائيل سيغدو في الأشهر والسنوات القادمة السياق الذي سيفرض نفسه على الواقع.  فحتى الآن نالت خطة فك الارتباط الشرعية من القوة العظمى الأولى في العالم. وبعد أن لاقت شبه إجماع في إسرائيل، واستعداد اوروبي لقبول مشروط لها على أن تكون جزء من خريطة طريق لحل النزاع، فانها سرعان ما ستصبح ذاك السياق التاريخ الذي لا مرد له.

          على المستوى الفلسطيني هناك تاريخ طويل وتجربة عريقة في التعامل مع مستوى أكبر أو أقل من هذا النوع من السياقات التاريخية. وفي الغالب كانت هذه التجربة هي العناد بحكم العدل والانصاف والحق. فاوسلو مثلا لاقت معارضة فلسطينية شديدة كادت تقسم المجتمع وهي لا تزال تقسمه حتى الان رغم أنها كانت سياقا تاريخيا لم يكن بوسع أحد في حينه أن يوقفه. وهنا غني عن الذكر ذاك السياق التاريخي الذي ولّد دولة إسرائيل وما كان بوسع أحد في حينه ان يغيره.

          خطة فك الإرتباط تبدو سياقا تاريخيا محتم التحقق. ولكنه سياق تاريخي غير محتم النجاح إسرائيليا. كثير من الأمور تعتمد على التطبيق نفسه. والشيطان يكمن في التفاصيل.  فهل سينتهي الصراع مثلا بعد أن تنسحب إسرائيل من القطاع؟! وهل ستعفي إسرائيل نفسها من المسؤولية الأدبية عما يجري فيه طالما لم تحل القضية الفلسطينية وتسوى المشاكل العسيرة التي تصرخ للسماء في إطارها؟! وهل ستتمكن إسرائيل من فرض نظام العزل العنصري، بفضل جدارها الفاصل عن الضفة بعد هذا الإنسحاب من القطاع لترسخ سيطرتها على كل فلسطين الإنتدابية عدا القطاع، فتفلت من الملاحقة الأدبية، السياسية والكفاحية، محليا واقليميا ودوليا؟!

          إسرائيل تريد أن تنسحب من القطاع، فلتتفضل وبأسرع وقت ممكن وبشكل كامل وشامل وهذا كله دون أن ندفع لقاءه حرف واحد في أي وثيقة تقيد كفاحنا في سبيل حقوقنا المشروعة في وطننا.

          في مواجهة السياقات التاريخية لا تنفع حجة  العدل والحق. فالكفاح في سبيل الحق والعدل لا يعطي ثماره في معاندة تيار السياقات التاريخية بل في الإنسياق معه وبه والنجاة رغما عنه وربما بفضله.

 

          القدس - 22/10/2004

مقالات

 

*      انتهـى          *