Al-Masdar One

  

أتقنت في زنازين الاعتقال أربع لغات..

الخامسة.. كانت لغة التحدي وهزيمة الخوف والانتصار على السجان

    مقالات عطا القيمري
    مدونة عطا القيمري
    فيسبوك عطا القيمري
     

 

 المناضل عطا خليل محمد القيمري

بقلم: ريموندا حوا طويل

تذكرت وأنا أستمع للصديق عطا القيمري وهو يروي لي لمحات من شريط تجربته النضالية.. كتاب يوسف وهبي "عشت ألف عام".. وذلك لسخونة الأحداث وقسوتها وتنوعها ومفارقاتها وعنفها، ولأنها تثير الفكر والوجدان والشجن وتفجر براكين الغضب والثورة على فئة تاهت عن الإنسانية وتاهت في دروب الظلم والبطش والأنانية والعنصرية,

كنت أعرف "عطا" معرفة وثيقة.. فهو رمز من رموز النضال والثورة الفلسطينية.. حكم عليه بمؤبدين وخمس عشرة سنة.. وهو مفكر مبادر شجاع جريء، صادق في صفوف الجبهة الشعبية.. أدى دورا قياديا رائدا – ليس بالتنظير.. والتصريحات.. والمزايدات، بل بالعمل الثوري الفعلي كمقاتل حمل روحه على كفه.. وتقدم الصفوف وقال لرفاقه اتبعوني ولم يتأخر ليقول لهم تقدموا.

عرفت عطا ابن القدس.. سليل عائلة معروفة شابا مناضلا.. أنيقا.. مرحا.. مثقفا.. ودودا.. عاشقا للثقافة والفكر.. نصيرا للضعيف في كل موقف.. سويا.. منسجما ومتوازنا في كل ما يفعله وما يؤمن به.

لحظات شجن وبقايا دموع

          ولكن الذكريات التي أثارها "ابو عمر" بكل ما فيها من مواقف وظلم وقهر وقسوة وتجن أثارت شجوني.. وحركت الدموع في عيني.. وبعثت في نفسي ووجداني موجات من الألم والحزن.. فلم أكن أتصور هذه الملحمة من الألم والقسوة والعذاب.. يتعرض لهذا هذا الشاب الغض الوديع.. الذي نشأ وترعرع وسط أسرة مقدسية ثرية.. تحيطه بكل أنواع الرفاهية.

          الوطن غال، والإيمان بالمبدأ.. يحول الإنسان الصادق إلى طاقة هائلة من العمل والعطاء.. ولكن "حجم" الألم الذي صبه الباغي على المناضل الشاب.. فجر مشاعر الحزن والألم والدموع في وجداني.. وأبكاني.. وأمضيت ساعة أو بعض ساعة.. وأنا في حالة شجن.. وأسى.. أحاول أن ا ستعيد توازني وأجمع شتات نفسي الممزقة وأقاوم الدموع بكبرياء.. وتسامٍ وتعقل لبيب وفخر نبيل.

أبو كايد شيخ الشباب

          في القدس كانت البداية.. فقد ولدت في باب حطة بالبلدة القديمة، في بيت عتيق لعائلتي منذ مئات السنين وكان ذلك يوم 14/9/1955.. وكان أبواي بسيطين.. فوالدي كان أميا، وكانت والدتي "حكمت" من عائلة الحكيم الشامية، وكنا نقيم جميعا أنا وأخوتي وأخواتي في غرفة واحدة. والدي كان يعمل حلاقا في بدء حياته ومن ثم عمل في تجارة السيارات وأدار أعمالا تجارية ناجحة.. كان أبي شديد الأناقة.. وسيما.. حريصا ناجحا في عمله يدير خط سيارات "دمشق – القدس" وكان أول من أدخل سيارات المرسيدس للبلاد بالتعاون مع صديقه "قِرِّش".

          أما والدتي.. كانت "حكاية".. كانت شديدة الجمال.. أحضرتها جدتي من دمشق وهي في الثانية عشرة من عمرها وتربت في أحضانها.. فلما بلغت سن الزواج.. تزوجها والدي.

في مدرسة الرجولة والأخلاق

          ويتحدث عطا عن والديه بمقدرات ولهجة تفيض حبّا وشجنا وزهوا وصدقا.. ليس من قبيل الوفاء.. وإنما من قبيل المصداقية العالية.. كان أبي نموذجا للشخصية العربية.. في أناقته وترفعه وحبه للناس.. وتكريسه وقته وماله لفض النزاعات.. وتعلمت منه أن أنحاز دائما للضعيف فإذا تخاصم لديه فقير وغني فهو مع الفقير، وإذا تخاصم لديه رجل وامرأة.. فهو مع المرأة، وإذا تخاصم أمامه كبير وصغير.. فهو مع الصغير. تعلمت منه.. أن أكون دائما نصيرا للضعيف المهزوم.. وأنا أكرس كل ما لدي من قوة أو مال.. لمؤازرة الضعيف.. وكان رئيسا لنقابة الحلاقين في القدس. ومن ثم غدا تاجرا معروفا.. ولشدة أناقته.. وقوة حضوره، وهيبته، وشخصيته.. وكرم أخلاقه كانوا يطلقون عليه لقب "البرنس".

          أما الوالدة فكانت آية من آيات الجمال.. عرفها أهل القدس بلقب الشامية.. فكانوا يقولون.. الشامية راحت.. أو الشامية جاءت.. وزادها جمالا عقلها وتدبيرها وإخلاصها وحبها لأسرتها.

          في مدرسة هذين الأبوين تعلمت الصدق والالتزام والأدب والأخلاق والوطنية الصادقة.

وينشأ ناشىء الفتيان منا

على ما كان عوده أبوه

          ويرسم الابن البار عطا.. صورة رائعة لوالده فيقول:

          كان والدي كأنه فرانك سينترا "يلبس الحرير" في حلة بيضاء أنيقة، وكان يقتني مجموعة من السيارات، وكان كريم الأخلاق لم يتكبر أو يتعالى يوما ولم يتبجح أو يعلو على الناس.. كان متواضعا.. مسالما.. لم يبطش أو يسيء.. فإذا أطل "أبو كايد" فانه يمشي الهوينا.. بشنباته السود.. وشخصيته الرائعة.. وحذاؤه اللامع.. وكان بطبعه قليل الكلام.. سكوتا، لا يطلع من فمه إلا الكلمة الطيبة.. وكان معطاء، لم يقصده محتاج إلا وخرج من عنده مجبور الخاطر حتى لو دفع آخر قرش في جيبه.

          عندما خرجت من السجن.. كان عمري 30 سنة.. كنا نقيم في شعفاط.. وكان أصدقائي يترددون على البيت لزيارتي ولكنهم.. ما يلبثون ان يعقدوا صداقات حميمة مع والدي.. كان أبي وأمي يتمتعان بكاريزما إنسانية.. وحضور إنساني.. وأخلاقي رفيع، وجاذبية أبويّة ومودة وتواصل مع الناس.. تجعلني حتى الآن في حالة نشوى وانبهار وأنا أتذكرهما رغم انه مضى على رحيلهما أكثر من ثلاثين عاما.

هؤلاء أساتذتي فكيف تريد أن أكون

          أنجب والدي عشرة أبناء.. خمسة ذكور وخمس بنات، وفي سنوات الصبا الباكر ألحقني والدي بمدرسة صغيرة "مدرسة الست بهيجة".. وكانت في شارع الرشيد بالشيخ جراح، وعندما زار والدي المدرسة.. استدعاني المدير وقال لوالدي:

-       هذا الولد ذكي.. أنصح بإدخاله مدرسة خاصة.

وهكذا التحقت بمدرسة المطران طالبا في الصف الثاني الابتدائي.. وكانت مدرسة لمطران في ذلك الوقت مدرسة متميزة، لا يلتحق بها إلا أبناء العائلات الكبيرة، وكان ذلك عام 1961، وكان مدير المدرسة له رتبة دينية ويدعى "دِين أتكنز".

     وأذكر من أساتذتي في تلك الفترة المعلمة "مارغو" مدرسة اللغة العربية، والأستاذ يحيى هندية مدرس الدين الإسلامي، ومن المفارقات اني عندما عملت بالتدريس.. أصبحت زميلا لمارغو ويحيى.

     وكان الأستاذ عطية مصاروة قد شغل منصب مديرا لمدرسة المطران "15" خمسة عشر عاما، وعندما تخرجت من جامعة بيرزيت أرسل في طلبي، وألحقني بالهيئة التدريسية. وقد قبلت هذه المهمة.. من قبيل الوفاء، واعترافا بفضل المدرسة التي ربتني وغرست في نفسي قيم الوفاء والانتماء، وعلمتني أن أسد الدين لمن مد يده إليّ يوما.

     ويرجع الفضل في صمودي في السجن، وثباتي على مبدئي.. إلى هذه القيم التي تربيت عليها في المدرسة والبيت.

قل لي من هو معلمك.. أقول لك من أنت

          ومن الأساتذة الذين تركوا في نفسي أثرا لا أنساه، الأستاذ الكاتب الصحفي إبراهيم دعيبس.. كان يومها شابا صغيرا، ولكنه كان صاحب شخصية مميزة.. لم يكن معلما تقليديا، كان يمتلك المبادرة والإبداع، وكانت لديه دائما القدرة على الابتكار الفكري والتحدي العقلي، وكان يرحب بالمناقشة ويحترم الرأي الآخر، وقد غرس في نفسي حب الكتابة والتعبير من خلال مقالات قوامها الفكر.. والتجديد، لا الحف والترديد.. وأذكر أني كتبت يوما موضوع إنشاء اعتمدت فيه على ما سمعته أو قرأته.

          يومها.. عنفني بشدة.. وقال.. ما هذا يا عطا؟ أين تفكيرك.. أين شخصيتك.. أين رؤيتك ورؤاك.

          كان منهجه في النقد والتقويم يحترم الابتكار والعقل والإبداع. اما جبران خوري.. فكان طرازا فريدا من المعلمين.. كان يستطيع ان يدرس عربي وجغرافيا وتاريخ، وكان يحمل بكالوريوس في الكيمياء ويتقن خمس لغات، وكان شاعا وناقدا وأديبا. ومن شدة ولائي وحبي للأستاذ جبران خوري فاني ذهبت لزيارته في ثاني يوم من خروجي من السجن.. وكنت قد أمضيت عدة سنوات في الاعتقال.. وأول ما فكرت فيه هو ان اقدم باقة وفاء وولاء لأستاذي جبران خوري فذهبت إلى زيارته في جفنا.

          ومن معلمي مدرسة المطران الذين تأثرت بهم مستر "رصت" وهو انجليزي من يورك شاير.. وكان يخرج لفريق التمثيل في المدرسة الذي كنت احد أفراده  مسرحيات شكسبير بلغتها الأصلية ومنها هملت وماكيت وتاجر البندقية وروميو وجولييت وغيرها.

ليس صدقة أن أكون ليبراليا ديمقراطيا

          هؤلاء المربون.. هم الذين كونوا شخصيتي.. فكانوا امتدادا لتربيته البيتية، وليس صدفة ان أكون ليبراليا ديمقراطيا أتبنى وجهة نظر المظلوم، وأناصر الضعيف، وانحاز إلى الحق، وأناصر الفقير، وأبذل آخر نقطة من دمي ليقول الآخر رأيه دون خوف أو تراجع.. أبي وأمي وأساتذتي هم الثالوث المقدس في حياتي.

          وعندما أستذكر فترة الدراسة في المطران.. أسترجع أياما جميلة.. كان النشاط المدرس اللا منهجي في ذروته.. وكانت هناك أندية مختلفة، للثقافة، والرياضة، والشطرنج، واللغة الانجليزية واللغة العربية.. بل كان هناك نادٍ للمنطق.. وكنت أشارك في معظم هذه النشاطات.

أصبح عندي الآن بندقية

          كان التفوق في الدراسة هدفا من أهم أهدافنا، وكانت النشاطات اللا منهجية.. تتيح لنا فرصة التفوق والإبداع. ورغم صغير سني.. فقد كنت طالبا مشاغبا.. وكنت أتأمل ما حولي ومن حولي.. متسائلا.. لماذا يحتل الآخرون وطني.. ولماذا يغتصبون أرضنا وحقوقنا.. ولماذا يقتلون.. ويشردون أبناء شعبي.

          كانت التساؤلات.. تنقلب إلى مناقشات.. والى جدل عنيف بيني وبين أصدقائي.. ومن ثمّ كان القرار

          بحب طرد هؤلاء الغزاة..

          ولكن كيف.. ؟

          بقوة الايمان.

          كانت المعادلة بسيطة وواضحة وصريحة.. نحتاج فقط إلى شجاعة وقوة ورجولة وإيمان.. ان مبادئ الأسرة.. ومبادئ المدرسة ومبادئ الثقافة السليمة.. كلها تؤدي إلى نتيجة واحدة وهي.. انك إذا أُهنت يجب ان تقاتل.. وأي إهانة ابلغ وأفظع من الاحتلال.

كنا ثلاثة.. وكان القرار

          قررت أنا واثنان من رفاقي إبراهيم سعادة، ومعتز الدجاني ان نشكل تنظيما سريا.. وكتبنا  إستراتيجية هذا التنظيم الذي انضم إليه آخرون.

          كنا يومها طلابا صغارا في الصف الحادي عشر.. بيننا وبين الجامعة.. شبر أو أقل ومع ذلك.. كان القرار..  قمنا بنشاطنا بمبادرات على المستوى الوطني وكان تفكيرنا مستوحى من الفكر الماركسي.. وكان ميلاد هذا التنظيم يوم 18/1/1970م.

          ومما جعلنا نحث الخطى إلى الأهداف النضالية أننا خضنا في المدرسة تجربة هامة.. فقد قررت إدارة المدرسة طرد زميلنا "إبراهيم" وكانت المخالفة التي ارتكبها هذا الطالب لا تستدعي هذا العقاب القاسي.. ومن ثم.. تصدينا لإدارة المدرسة ونظمنا إضرابا وصممنا على تعطيل الدراسة إلى ان يعود إبراهيم.

          ولكن مدير المدرسة لم يتراجع.. فقد أغلق الفصل وطرد جميع طلابه.. ولم يسمح لأحد بان يعود إلا بعد أن يحضر ولي أمره ويكتب تعهدا.

          واتصل الطلاب بوالدي.. ووعدهم بالتدخل.. وأخيرا.. تم تسوية الموضوع.. وكنت آخر طالب.. يدخل الفصل.

ماذا يحتاج منا الوطن؟

          فجر هذا الحادث أحاسيس الثورة في نفوسنا.. وأطلق تساؤلات عديدة..

          ما الذي يحتاجه وطننا؟

          ماذا نريد أن نكون..؟ وما جدول التعليم؟

          هل يحتاجنا الوطن كمتعلمين أم كرجال..؟

          وما جدوى ان تكون متعلما وأنت تفتقد إلى الرجولة والحرية والكرامة.. وإرادة التغيير.. والعزة والشموخ

          من هو عدونا الحقيقي..؟

          - إنهم الجيش والشرطة.. يجب أن نتحلى بنبل الفارس المقاتل وإنسانيته فلن يمس سلاحنا أي مدني..

          يجب أن نحافظ على طهارة السلاح.. حتى لو أن العدو دنس هذه الطهارة وكسر المبادئ الإنسانية والخلق الكريم. وكنا نقرأ.. ونفكر ونحرر.. قرأنا ماركس ولينين، وجورج حبش.. وقرأنا عن جيفارا.. وهكذا وجدنا تطابقا بين أفكارنا وبين الجبهة الشعبية.. فكنا جنودا أوفياء في نضالها.

اعتقلت وأنا في السادسة عشرة من عمري

          وفي بادىء الأمر تم اعتقالي على خلفية الاتصال بالجبهة وتنظيم خلايا ثورية، ولاحقا وبناء على اعاقالات لاحقة انمشف امر العمليات.

          وتعرضت مثل رفاقي إلى ألوان من التعذيب.. وكان الضابط الموكول إليه تعذيبنا يدعى أبو هاني.. ورغم شراسته وقسوته.. وبطشه. لم يستطيع ان ينزع مني إلا اعترافا في ثمانية اسطر وهو أني كنت أجند هؤلاء الشباب لاتحاد الطلبة.

          وعندما أطلقت فليتسيا لانغر على هذه السطور قالت لي: أنني لم أصادف أي إفادة مثل إفادتك.

في السجن صراع ارادات

          في السجن تعلمت اللغة العبرية في زمن قياسي "خلال سنة" وكنت أستطيع أن أفهم كل ما يدور حولي خلال التحقيق، وأستطيع أن أقول أني صمدت بصورة بطولية.. كنت أقول لنفسي.. لن يهزموني.. أهم شيء.. أنني لم اسلم أي سلاح، ولم أعترف على أحد.. ورغم كل شيء.. فقد حكموا علي .. بعد معركة العبور في اكتوبر عام 1973.. وبعد أربعة أيام فقط بمؤبدين وخمسة عشر عاما.

          القوا بي في الزنزانة 127 في سجن الرملة مع أن عمري كان اقل من 21 سنة.. كنت في السابعة عشرة من عمري.. ولذلك أخذت أطالب بان أذهب إلى قسم "ج" حيث هناك شباب القدس ممن هم فوق الواحد والعشرين عاما.

          ولكنهم لم يستجيبوا لي.. وذات يوم سمعت اصواتا حوالي بالانجليزية والفرنسية، فأدركت ان الصليب الأحمر موجود فأخذت أصرخ طالبا أن يروني..واستدعاني في لثر ذلك مدير السجن الذي كان يسمى إلياس "الرهيب" وطلب مني الا أثير أي مشاكل اذا كان سيدعني انضم الى رفاقي ولكني اصريت ان هذه المشاكل لا تتضمن حقي في ان امارس الدور السياسي الذي أومن به.

          لقد أمضيت تسعة سنين في سجن الرملة.. وخمس سنين في سجن نفحة.. ولا أقول أنها كانت سنوات سعيدة.. او سنوات عادية.. كانت فترة عذاب وألم معجونة بالألم والقهر والمعاناة.. ولكني عرفت كيف أروض نفسي.. وأتعايش مع الألم والقهر وظلام السجن وظلم السجان.

بالثقافة والعلم والقراءة.. تضيء شموع الامل

          هذه الفترة من حياتي كانت فترة ثقافة وعلم ونضوج.. وتأمل كنت أمضي أكثر من اثنتي عشرة ساعة في القراءة والكتابة والتأمل والترجمة.

          كنت اشتغل على نفسي 12 ساعة كل يوم.. قرأت وكتبت وتعلمت لغات، درست ودرست آخرين وترجمت كتبا ونسخت آلاف الصفحات بخطي الجميل.. كنت أنسخ كل يوم مائة صفحة.. وكنت أحاول دائما ان اضرب الأرقام القياسية في الدراسة والكتابة والنسخ وتعليم الآخرين.

          أتقنت:

          الانجليزية والفرنسية والعبرية كما تعلمت الاسبانية    وبدأت بالروسية ولكني لم اكل شوطها اذ نقلنا جميعا الى نفحة لنبدأ مسيرة جديدة بتجربة اخرى ذات طابع خاص.

          ولكن أعظم لغة أتقنتها هي لغة الإرادة.. صلابة الإنسان الثائر.. الواعي.. المثقف.. الملتزم.. المؤمن بالمبدأ.. الحريص على ان يسود ميزان الحق حتى لو لفظ آخر أنفاسه.. هذه اللغة – لغة الإرادة هي التي قهرت بها السجن والسجان والظلم.. والعبودية.. والاستغلال والبطش.

بالسجائر.. أثريت المكتبة الفرنسية

          أما كيف تعلمت اللغة الفرنسية.. فلذلك قصة.. ذات يوم احضروا لنا شابا يهوديا.. مجرما جنائيا كان غنيا.. وكان "فار" قراءة. كان يشتري على الأقل عشرين كتابا في الأسبوع كلها من أُمهات الكتب الثقافية العالمية باللغة الفرنسية.. وكنت في حالة ذهول وحسرة.. الكتب موجودة.. والثقافة في متناول اليد، ولكن اللغة هي العقبة.. ولذلك كان قراري.. الذي أقنعت به عبد اللطيف غيث.. وبدأت أتعلم اللغة الفرنسية.

          أتقنت الفرنسية في وقت قياسي بل اني ترجمت كتاب "حرب الشعب جيش الشعب" الذي كتبه الجنرال جياب قائد قوات فيتنام الشمالية في معركة "ديان بيان فو" كنت أشكل دارا للنشر.. في كل شهرين اصدر كتابا.

وكيف أتقنت اللغة العبرية

          كانت معرفتي للغة العبرية لا بأس بها على مستوى المحادثة.. ولغة الشارع.. أما اللغة المقروءة لغة الكتابة.. والصحافة فلم أكن أتقنها.

          وأثناء حرب اكتوبر كانت إدارة السجن تسمح لنا بسماع نشرات الأخبار بالعبرية، ولذلك صممت على إتقان العبرية، فتعلمتها.. وأصبحت مسئولا عن إصدار نشرة يومية مترجمة باللغة العربية.

          وكان معظم الرفاق قد اعتقلوا وهم في سن صغيرة، ولم يكن يحمل درجة جامعية الا ثلاثة فقط وهم:

          عمر القاسم بكالوريوس لغة انجليزية

          عبد اللطيف غيث بكالوريوس تربية رياضية

          وليم نصار وكان معه شهادة من اليسوعية

          وفي مدرسة السجن تعلمنا.. التثقيف الجماعي.. تعلمنا القيم والتضامن، والتكافل، والعطف المتبادل، والتواصل الوجداني.

جهنم نفحة لكسر القيادات

          توصلت إدارة السجون إلى خطة جهنمية لكسر إرادة الحركة الأسيرة.. فاختاروا 25 أسيرا من ثلاثة سجون وهي: سجن الرملة وسجن السبع وسجن عسقلان

          وفي 2/5/1980 تم ترحيل هؤلاء السجناء.. الذين كانوا يمثلون:     القيادات السياسية والقيادات الفكرية          والقبضايات. وتم ترحيلهم الى سجن نفحة الصحراوي.. الذي اقيم بصورة خاصة ووفق نظام يفتقر الى الإنسانية.. فهو في منطقة صحراوية.. وبالحديد والصاج.. وفي درجة حرارة عالية.

          لقد جمعوا هؤلاء الأسرى "ذوو الرؤوس الحامية" كما كانوا يطلقون عليهم.. وكان الهدف تطويعهم وتركيعهم فاذا تم لهم ذلك فان بقية الأسرى ليسوا مشكلة.

          دخلنا عراة.. كما ولدتنا أمهاتنا وتعرضنا للضرب الشديد.. ولكن ما أسلمني الى موجة قاسية من الحزب والألم والقهر.. هو أنهم حرقوا كل أشيائنا.. ومن ضمنها تسعين دفترا.. كتبت فيها ما اعتقد انه ذوب نفسي.. وكياني.. وخلاصة ثقافتي في تجارب السجن.

          لقد حرقوا دفاتري ولكنهم لم يحرقوا وجداني أو ضميري أو عقلي أو شخصيتي.

          أومعارفي.. وأفكاري ورؤاي، وهمسات قلبي.

          لم يحرقوا طموحي وإنسانيتي.

          على مدى طوال شهر كامل وانا أمضغ الحسرة والألم وأتجرع مرارة الهزيمة.

تنبأت له بنويل

          ولكن أخيرا قررت أن أواصل التحدي.. وأن ابدأ من جديد. وعندما حصلت على كتاب "مائة عام من العزلة".. لجبريئل غارثيا ماركيز وهو أديب عالمي من أمريكا الجنوبية قمت بترجمته عن الانجليزية ولما فرغت.. رفعت الكتاب بيدي اليمنى وهتفت:

          وقد تحققت نبوءتي.. ففي نفس العام فاز هذا الكتاب العالمي بجائزة نوبل.

          في سجن نفحة تعرضنا لألوان من العذاب والقهر والإذلال ولكنا تحملنا ذلك بشجاعة وصبر.. بل إننا اضربنا 33 يوما.. كان ذلك في 14/7/1980

          صمدنا..

          وقلنا لهم:- أنتم تريدون ان تكسروننا ولكننا سنكسركم.

          ونتيجة لصمودنا البطولي.. تغيرت تصرفات السجانين.. لأنهم أدركوا.. أنهم أمام رجال.. امام طاقات قوية.. صلبة.. إمام إرادات تستعصي على الكسر.. إرادات مسلحة.. بالحق والثقافة والالتزام والشجاعة.

          هذه القيم التي جسدها رجالنا جعلت السجانين يدركون أنهم أمام امتحان عسير مع ضمائرهم.. فهم لا يستطيعون ان يضطهدوا هذه النماذج النبيلة من البشر التي تنحني أمام الرؤوس.. تقديرا وإجلالا لصمودها وثباتها.. واستهانتها بالموت نفسه في سبيل المبدأ والمجموع.

مقايضة لم تتم

          في أوائل السبعينيات.. بعد أن قضي على الثورة نتيجة أحداث أيلول وجرش.. وتراجع المد الثوري.. وفقدنا قواعدنا في الأردن

          قررت السلطات الإسرائيلية أن تلجأ إلى حيلة لتفرغ بها السجون من المناضلين، فعرضت علينا أن نسلم هويتنا.. ونوقع على أوراق معينة، ومن ثم يتم إطلاق سراحنا على ان نغادر الأراضي الفلسطينية وعندما علمت والدتي بذلك قالت:

- أمامك فرصة.. لتنظيم حياتك من جديد، انه عرض معقول.

          قالت لها:

-       يا أمي.. هل زرتني يوما فوجدتني حزينا مقهورا يائسا.. على داري سوف أعود.. لنفس تختي.. لنفس شقتي وغرفتي.. سأعود.. ولا بديل لي عن ذلك.

وقد تم ذلك

ففي يوم 20/5/1985

تم الإفراج عن 1.150 أسيرا فلسطينيا مقابل ثلاثة جنود إسرائيليين وهي المعروفة بصفقة أحمد جبريل.

وكنت واحدا من الذين أفرج عنهم لأعود إلى غرفتي وسريري وأمي وأبي في شعفاط في القدس.

-------------