طباعة

   

 

مقالات عطا القيمري

 

كتب بتاريخ: 23 /تموز/ 2004

 

 *  *  *

 

مقالات  

 

 

 

دولة، دولتان، ثلاث دول

 

بقلم:عطا القيمري

 

يبدو للوهلة الاولى أن المفاوضات بين الفلسطينيين والاسرائيليين قد توقفت بعد كامب ديفيد وطابا، بل ان الحديث والحوار، التنسيق والارتباط، قد شل هو الاخر منذ تصاعد التوتر وباتت وسائل القتال هي التي تنطق بدل اللسان. غير أننا في نظرة أعمق نرى ان الحوار والتفاوض في المسائل الاساس التي كانت ولا تزال موضع الخلاف، والتي تفجر على محكها الصراع من جديد، مستمر ولم يتوقف حتى للحظة واحدة وإن كان ذلك بوسائل اخرى. فلا تزال سارية المفعول حكمة المفكر الاستراتيجي الشهير كلاوزفيتس الذي قال ان الحرب هي استمرار للسياسة بطريقة اخرى.

 

          هناك روايات متعددة حول أسباب فشل المفاوضات ولا سيما ذروتها في كامب ديفيد. ورغم ذلك فان هناك نقاط أساس تجتمع عندها كل هذه الروايات مهما اختلفت مصادرها. فعودة اللاجئين الى اسرائيل، وعودة اسرائيل الى خطوط الرابع من حزيران هما الاشكاليتان الاساسيتان اللتان تفجرت على صخرتهما المفاوضات. فلم يكن بوسع اسرائيل ان تقبل بعودة تامة، جيشا ومستوطنين، الى خطوط الرابع من حزيران. كما لم يكن وليس في وسعها ان تقبل بعودة جماهيرية شاملة أو شبه ذلك للاجئين الى نطاقها. والتفافا على ذلك طرحت فكرة تعديل خطوط حزيران واستبدال ما يقتطع منها بمناطق يعوض بها الفلسطينيون من الاراضي وراء هذه الحدود، في النقب مثلا. ومن الجهة الاخرى لم يكن بوسع القيادة الفلسطينية ان ترضى بأقل من مائة في المائة من أراضي العام 1967، مع عودة مجرد رمزية للاجئين الى ديارهم في اسرائيل. وعلى هذا يدور الصراع منذئذ: الى أي خطوط يمكن ان تعود اسرائيل ومدى امكانية الموافقة الفلسطينية على هذه الخطوط، وكم من اللاجئين سيُسمح لهم بالعودة. لا ريب ان هناك مسائل هام اخرى اشكالية في المفاوضات، وعلى رأسها مدى سيادة الدولة الفلسطينية على أراضيها وسيطرتها على معابرها وحدودها في محيطها الشامل.

 

          ولكن في هذه الاثناء، جرت تطورات سياسية وواقعية في غاية الاهمية: سقوط حزب العمل، صاحب رؤيا الدولتين، وصعود الليكود، أبو الاستيطان ورؤيا أرض اسرائيل الكبرى أو على الاقل اسرائيل الاكبر قدر الامكان؛ انصراف ادارة كلينتون المساومة والمتوافقة باكبر قدر مع رؤيا العمل والانسحاب بأشد اقتراب من الخط الاخضر (ما هو عربي للفلسطينيين وما هو يهودي لاسرائيل)؛ اندلاع الانتفاضة وتسلل الصراع والقتال محطما الخط الاخضر الوهمي، فاتحا مداه ليضرب الجبهة الداخلية لاسرائيل من جهة ويحطم الحصانة شبه السيادية لمناطق أ. في أراضي السلطة الفلسطينية؛ الجدار الاسمنتي الشاهق الذي بات يُضرب في قلب البلاد كتجسيد مادي للجدار النفسي الذي ضربته الانتفاضة من جهة والقمع والقتل من الجهة الاخرى.

 

          هذه التطورات أبعدت فكرة الدولتين كحل للنزاع لدرجة متعذرة. فرغم أن شارون ينازع حزبه حول موافقته على فكرة الدولة الفلسطينية وكأن به يريد أن يكون أباها المؤسس، ورغم ما في رؤيا الرئيس بوش من موافقة على قيام الدولة الفلسطينية بجوار اسرائيل، إلا أن هاتين الرؤيتين لا تزالان بعيدتان حتى عن أدنى حد في الحد الأدنى لطرح براك ومسار كلينتون.

 

          وتأتي خطة فك الارتباط لشارون، مترافقة والجدار ذي الرشح من جهة واحدة، ضربة قاضية لفكرة الدولتين اذ ان النتيجة المباشرة لهما هي "دولة" مرعية دون رعاية، في حبس شبه تام في غزة مع شكل من اشكال نظام الابرتهايد، المحميات المجزأة والمبتورة والخاضعة للدولة السائدة خلف الجدار في الضفة.

 

          وكان هذا الواقع: اندحار فكرة الدولتين الى الوراء، وصعود نظام الابرتهايد الى الصدارة، محفزا لعودة فكرة الدولة الواحدة، التي لم تندثر أبدا منذ بداية الصراع، لتجدد ذاتها كبديل لهذا الواقع. ومع ذلك فان هذه الفكرة تبدو غير واقعية في هذا الواقع مثلما كانت في كل وقت مضى. فلا اسرائيل ترغب في الغاء ذاتها كدولة يتجسد فيها حق تقرير المصير لليهود، كما جاء في الشرعية التي نالتها بقوة قرار الامم المتحدة في 29 تشرين الثاني 1947، ولا فلسطين ترغب في ان تدفن في غياهب الفناء قبل أن ترى النور. لهذا فمع ان فكرة الدولة الواحدة تنسجم والرؤيا الديمقراطية الانسانية الليبرالية، حيث يمكن للناس ان يعيشوا سواسية بصرف النظر عن فوارقهم العرقية ، الدينية او القومية، الا ان هذه الفوارق لا تزال تشكل الاساس والحافز لكل صراعات البشر في مستواهم الراهن، وبالتالي ففكرة الدولة الواحدة هامة لتكون المثال الذي يشد الناس نحوه، ليعارضوا به واقع الصراع المرير، حتى لو لم تكن هذه برنامجا سياسيا للكفاح الفوري.

 

          ولئن كانت الدولة الواحدة مثالية والدولتان متعذرتان لانهما يأخذان، يقتطعان، يحرمان الشعبين المتقاتلين من جزء مما يملكان بالفعل او يتطلعان لان يملكانه، فان فكرة الدول الثلاث تعطيهما وتكاد لا تأخذ منهما شيئا. اسرائيل، فلسطين وفيدرالية بينهما. ثلاث دول تقام في آن واحد. فلسطين تقام الى جانب اسرائيل ولكن بحدود سيادية على الخريطة، دون أسوار، جدران او أسلاك شائكة، لا مادية ولا معنوية. في القدس وفي كل الوطن تبقى الحدود مفتوحة، والامن شاملا. أما الدولة الثالثة التي ستقام في نفس الوقت بين الدولتين ففيدرالية، او كونفيدرالية، كما يتفق عليه لتعنى بمسؤوليات المسائل موضع الصراع، وعلى رأسها الاستيطان، استيعاب العودة، العلاقات الخارجية والامن الخارجي.

 

          فكرة الثلاث الدول تحتاج الى استيضاح وتعميق اضافيين، ولكن يمكن لها ان تكون مبادرة فلسطينية تواجه مبادرة فك الارتباط لشارون برؤيا سياسية ورسالة انسانية سلمية تخرج فلسطين من حيز رد الفعل الى الفعل السياسي النشط وتخرج الازمة والصراع من مأزقهما الذي ترابطان فيه منذ سنوات عديدة.

 

القدس 23/7/2004

 

*      انتهــى          *