Al-Masdar One

 

 

   

المصدر الاستراتيجي

 

نشرة شهرية مترجمة عن منشورات مراكز البحوث الاسرائيلية تصدر في بداية الشهر عن:   

ترجمة "المصدر" عطا القيمري - القدس ت و ف: 5829882 ص.ب: 51367

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

       www.almasdarone.com         

 

 

      

السنة الرابعة عشر

العـــدد  155 كانون الثاني 2013

الفهــرس

الرقم

الموضوع

الكاتب              

المركز

النشرة

الصفحة

1 -

في هذا العدد

المصدر

المصدر

المصدر الاستراتيجي

2

2-

التلاقي بين الواقعية الجديدة والشرق الاوسط: في الحاجة الى اعادة مطامح ايران الذرية الى سياقها (الاقليمي)

إميلي لنداو

معهد بحوث الامن القومي

تقدير استراتيجي

3

3-

العراق والفضاء العربي بعد الاحتلال الامريكي

يوئيل جوجنسكي

معهد بحوث الامن القومي

تقدير استراتيجي

11

4-

تركيا وشمال العراق: تعميق العلاقات في مواجهة محيط معادٍ

غاليا لندنشتراوس وبركان أكسوي

معهد بحوث الامن القومي

تقدير استراتيجي

19

5-

هل يقترب "الجهاد العالمي" من حدود اسرائيل؟

يورام شفايتسر

معهد بحوث الامن القومي

تقدير استراتيجي

26

6-

بعد العملية: ميزان الطرفين

أفرايم كام

معهد بحوث الامن القومي

مذكرة

35

في هذا العدد

تعترض إميلي لنداو في بحث عنوانه "التلاقي بين الواقعية الجديدة والشرق الاوسط: في الحاجة الى اعادة مطامح ايران الذرية الى سياقها (الاقليمي)" على نظرية كينيث وولتس صاحب مذهب الواقعية الجديدة الذي يرى فيما يتعلق بمنطقة الشرق الاوسط ان حصول ايران على القدرة الذرية قد يكون عاملا مُكافئا للقدرة الذرية عند اسرائيل وقد يفضي ذلك في نهاية الامر الى استقرار الاوضاع في الشرق الاوسط من غير اضطرار دول اخرى في الشرق الاوسط الى الحصول على القدرة الذرية لتُعادل ايران أو تُعادل اسرائيل، وتحاول الباحثة ان تُبين خطأ هذه النظرية في السياقين الدولي والاقليمي لأن ايران في رأيها لا تبحث عن السلاح الذري كي تُكافيء اسرائيل وتُعادلها بل انها تبحث عنه من اجل الهيمنة الاقليمية وتعزيز مكانتها الاقليمية والدولية ولهذا فان بواعثها هجومية عدوانية.

كتب يوئيل جوجنسكي في بحث عنوانه "العراق والفضاء العربي بعد الاحتلال الامريكي" يُبين التوتر الذي يهيمن على سياسة العراق ولا سيما انه يقع بين قطبي جذب القطب الايراني من جهة والقطب العربي السني من جهة اخرى، فالعراق الآن بين أكثر من اختيار فاما ان يتجه الى توثيق التعاون مع ايران وسياستها في المنطقة ويبتعد بذلك عن المحور العربي السني وإما ان يعاود اندماجه في المحور العربي السني مع وجود شك من هذا المحور في القيادة العراقية التي تحاول تركيز السلطات في يديها ودفع المراكز السنية في الداخل العراقي الى الهامش.

          كتبت غاليا لندنشتراوس وبركان أكسوي في بحث عنوانه "تركيا وشمال العراق: تعميق العلاقات في مواجهة محيط معادٍ" يُبينان المصالح المشتركة بين تركيا والادارة الاقليمية الكردية في شمال العراق والعوامل التي تدفعهما الى التعاون بينهما على رغم عدد من التوترات بينهما قد تقوى ايضا في المستقبل. وبيّنا ان الولايات المتحدة باعتبار تركيا حليفة لها وكذلك الادارة الاقليمية الكردية ترى أهمية عظيمة لاستمرار هذا التعاون الوثيق بينهما ولا سيما بعد انسحابها من العراق لأنها تريد لهذا التعاون ان يكون وزنا معادلا لايران وتأثيرها في العراق.

وكتب يورام شفايتسر في بحث عنوانه "هل يقترب "الجهاد العالمي" من حدود اسرائيل؟"  يُظهر ان عناصر الجهاد العالمي من المتحالفين مع القاعدة أخذوا يقتربون من الحدود الاسرائيلية من الشمال والجنوب خاصة ومن الشرق ايضا، وبيّن ما هي الوسائل التي يجب ان تستعملها اسرائيل لكفهم وردعهم عن الوصول الى حدودها وتهديد أمنها، ومنها التعاون الوثيق مع جاراتها وبخاصة مصر والاردن والطلب الى النظام السوري ان يحقق سيادته وان يكف هذه العناصر وان تعمل الادارة الاسرائيلية على التوجه الى حكومة لبنان على اختلاف مركباتها لتكفهم عنها

كتب أفرايم كام في مقالة عنوانها "بعد العملية: ميزان الطرفين" يُبين ان نتائج عملية "عمود السحاب" لم تتضح اتضاحا كاملا حتى الآن بحيث لا يمكن ان نعلم الآن هل ستكون حماس معنية بالحفاظ على التهدئة زمنا طويلا لأن ردع اسرائيل لها قد أثر فيها أم تكون مستعدة لتجديد المواجهة العسكرية مع اسرائيل لأن العملية لم تكن رادعة لها بقدر كافٍ وخصوصا ان الجانبين الفلسطيني والاسرائيلي كل يزعم أنه هو الذي انتصر في المواجهة

أخيرا ترجو أسرة "المصدر  الاستراتيجي" لقرائها أكثر القراءة فائدة ومتعة.  

"المصدر"

التلاقي بين "الواقعية الجديدة" والشرق الاوسط:

في الحاجة الى اعادة مطامح ايران الذرية الى سياقها (الاقليمي)*

بقلم: إميلي لنداو

ان البروفيسور كينيث وولتس هو واقعي جديد وهو في واقع الامر أبو النظرية الواقعية الجديدة أو "الواقعية البنيوية" – وهي نظرية عرضها لأول مرة في كتابه الذي نشر في 1979، وبرزت منذ ذلك الحين نظرية رائدة في ابحاث كثيرة في مجال العلاقات الدولية. وضربت أصول النظرية بجذورها عميقا في تفكير باحثين وخبراء بهذا المجال وأصبح النظر اليها في احيان كثيرة كالنظر الى حقائق عامة.

ان مقالة وولتس الاخيرة التي نشرت في المجلة الامريكية "فورين أفيرز" تحت عنوان "لماذا يجب ان تُحرز ايران القنبلة الذرية"، تمثل كيف قد يخطيء استعمال فروض ومباديء نظرية واقعية جديدة صارمة لتحليل واقعة في العالم الحقيقي – أي سعي ايران الى قدرة ذرية عسكرية – الهدف على نحو خطير. ان مقالة وولتس تعطي فرصة لنرى كيف قد يعمل تطبيق فروض الواقعية الجديدة مثل مرشد مضلل للتوجيه في حقل العلاقات والعداوات المركب بين دول الشرق الاوسط. تتميز العلاقات بين دول المنطقة في حالات كثيرة بتقاطع الأهداف وتناقضها بخلاف ما هو متوقع بحسب الفروض المقبولة. فـ "الأمن" و"الاستقرار" و"التوازن" – وهي المصطلحات الأساسية للواقعية الجديدة – تحصل في هذه المنطقة على تفسير قد يصد محاولات تطبيق مباديء النظرية الواقعية الجديدة التي تتميز بالتقليل والاختصار.

ان توجه وولتس راسخ بصورة جيدة في الواقع في جانب واحد على الأقل ألا وهو تقديره المتعلق بخاصية البرنامج الذري الايراني. ان وولتس لا يدفع ضريبة كلامية الى اولئك الذين ما زالوا ينتظرون ضمانات ايرانية لكون نوايا ايران في المجال الذري تتجه الى أهداف سلمية كما تزعم. بدل ذلك يتقبل وولتس حقيقة ان ايران "تسعى الى سلاح ذري" في حرفيتها. يشارك وولتس في تقديره المتعلق بصورة النشاط الذري الايراني عدد أخذ يزداد من المحللين والخبراء الذين انضموا في خلال السنتين الاخيرتين الى اولئك الذين أيدوا من قبل هذا الموقف طوال سنين. ومع ذلك فان الاستنتاج المؤسف لكثيرين من المؤيدين الذين انضموا في الفترة الاخيرة هو انه لم يبق ما يُفعل فيما يتعلق بتقدم ايران، وبدل ذلك يجب على العالم ان يبدأ في مسار التكيف مع ايران الذرية. ويؤيد كثيرون منهم فكرة انه يمكن ان تُحتوى بنجاح دول ذرية (بواسطة الردع)؛ ويؤكدون انه يمكن التكيف مع الواقع الجديد بنفس صورة تعود العالم للصين واالباكستان وكوريا الشمالية الذرية.

يوافق وولتس على ذلك بل انه يدفع بالنقاش خطوة الى الأمام: فهو لا يعتقد فقط ان سيناريو ايران الذرية حتمي وانه يمكن ردعها حينما تصبح دولة ذرية بل هو يرى ان هذا السيناريو هو في الواقع أفضل نتيجة ممكنة للازمة المستمرة منذ عشر سنوات حول نشاط ايران الذري. وذلك لأنه يرى ان هذا السيناريو يتوقع ان يعيد الى المنطقة التوازن والاستقرار. حينما يخلص خبير رائد عظيم التأثير بالعلاقات الدولية، يعتبر مرجعا في هذا المجال الى هذا الاستنتاج فانه ينبغي ألا يتم تناوله باستخفاف أو بتجاهل. ان التحليل التالي يتحدى التفكير الذي يقترحه وولتس مع استعمال مصطلحاته وبتأكيد التاريخ ذي الصلة لتطوير ذري وعلاقات بين الدول في الشرق الاوسط. ان هذا التاريخ يثير اسئلة تتعلق بكثير من الفروض التي يصدر عنها وولتس. وسينحصر التحليل في اسباب محاولات دول مختلفة في المنطقة تطوير برامج ذرية عسكرية؛ وسيفحص كيف تناولت هذه الدول سياسة اسرائيل الذرية خلال السنين ومن ذلك الخطوات التي خطتها اسرائيل لوقف تحول دول اخرى الى دول ذرية؛ ويقف على الأهمية العامة لحصر العناية في نوع العلاقات الدولية في الشرق الاوسط في كل محاولة لتفسير التقديرات الاستراتيجية للدول المختلفة ومنها ما يتعلق بتطوير السلاح الذري. وعلى خلفية هذه الامور سنُبين لماذا تتحدى حالة ايران التي تريد ان تصبح دولة ذرية، مباديء الواقعية الجديدة التبسيطية وكيف أنها ليست أفضل حل للازمة الطويلة.

دعوى وولتس

تكمن دعوى وولتس في الافتراض النظري المتعلق بالاستقرار الدولي (والاقليمي)، وبالفكرة المصاحبة المتعلقة بضرورة إحداث توازن في المجال الدولي. على حسب نهج التفكير هذا، في اللحظة التي أخلّت فيها اسرائيل بالتوازن في الشرق الاوسط – بأن أصبحت دولة ذرية في ظاهر الامر – كان الامر مسألة زمن فقط الى ان تتبنى دولة اخرى في المنطقة اتجاها مشابها من اجل اعادة التوازن الى ما كان عليه. ويرى وولتس ان اعادة التوازن ضرورية لاعادة بناء الاستقرار في المنطقة، والاستقرار يخدم الأمن الاقليمي الذي هو القوة الدافعة في العلاقات الدولية. ان اللغز الحقيقي من وجهة نظر وولتس في الحقيقة هو لماذا استمر احتكار اسرائيل زمنا طويلا الى هذا الحد – وهو بحسب تصوره مصدر واضح لعدم استقرار اقليمي ويقول بعبارة: "ان ترسانة اسرائيل الذرية لا رغبة ايران في ترسانة كهذه هي التي أسهمت بأكبر قدر في الازمة الحالية. فالقوة تطمح في نهاية الامر الى التوازن".

ويتوقع وولتس تأييدا لفكرته المركزية عن مبدأ التوازن ألا يُعوض تحول ايران الى قوة ذرية عن عدم الاستقرار الذي انشأته اسرائيل فحسب بل ان يقوى التأثير الاستقراري للردع المتبادل الجديد وألا يوجد عند أية دولة اخرى في المنطقة حافز الى احراز قدرة ذرية عسكرية خاصة بها. ويشير هذا الافتراض الى ان وولتس يرى ان السياسة في الشرق الاوسط تضع اسرائيل في مواجهة سائر الدول جميعا وان هذه الدول موحدة على مصلحة استراتيجية مشتركة محصورة في عدو واحد هو اسرائيل. أي انه يكفي من اجل اعادة التوازن ان تحرز واحدة من هذه الدول سلاحا ذريا.

يُبين فحص أعمق عن عدد من الحقائق والتطورات البارزة في تاريخ سياسة الشرق الاوسط الطبيعة المتقلبة لهذه الافتراضات.

مطامح ذرية في الشرق الاوسط: سياسة اقليمية معقدة، وحراك توازن مركب

يدل واقع سياسة الشرق الاوسط على انه لا يمكن النظر الى دول المنطقة على أنها دول يشابه بعضها بعضا من ناحية التفضيلات الاستراتيجية لكل واحدة منها، كما لا يمكن النظر الى الحراك الاقليمي الغالب على انه أمر يرى ان "اسرائيل في مواجهة البقية جميعا". فكل دولة في المنطقة لها منظومة مصالح وتصورات للتهديد خاصة بها؛ هذا الى ان الأحلاف والتفاهمات المختلفة التي نشأت على مر السنين بين الدول ليست ثابتة بل تميل الى التغير بحسب التطورات السياسية في المنطقة. ويمكن ان نرى مثالا حديثا على هذا النمط الاقليمي المعروف بعلاقة تركيا بايران. فقد كان يبدو قبل سنتين ان هاتين الاثنتين تميلان الى انشاء علاقات متقاربة بل الى انشاء حلف جديد قد يصبح تهديدا جديدا لاسرائيل. لكن هاتين الدولتين هما ايضا عدوتان استراتيجيتان تتنافسان في التأثير في المنطقة. وبسبب هذه العداوة التي تغلي تحت السطح فليس مفاجئا ان أظهرت مواقفهما المتعارضة من الحرب الأهلية في سوريا في المدة الاخيرة الفروق بينهما على نحو واضح جدا.

عرفت اسرائيل نفسها من قريب المنظومة المعقدة لمصالح متضاربة تميز الشرق الاوسط في مطلع تسعينيات القرن الماضي مع انشاء الحلقات الاقليمية برعاية مؤتمر السلام في مدريد. فقد أعطت اللقاءات المتعددة الأطراف المشاركين الاسرائيليين فرصة ليروا بأعينهم مبلغ اختلاف المخاوف والمصالح التي أحضرتها كل واحدة من الدول العربية الى مائدة التفاوض. وان حقيقة ان الاسرائيليين لم يواجهوا كتلة عربية موحدة فتحت أعينهم على فرص غير متوقعة للتعاون ايضا.

اذا حصرنا العناية في المجال الذري وجدنا ان دول المنطقة التي حاولت ان تطور قدرات ذرية عسكرية لم تفعل ذلك في الأساس عن حاجة الى معادلة اسرائيل من جهة استراتيجية. فقد كانت فخامة الشأن واعتبارات السياسة الاقليمية هي التي لعبت دورا حاسما في تفكير هذه الدول، وحينما أُثيرت التقديرات الامنية انحصرت في دول اخرى ايضا. فالبرنامج الذري العراقي كان الحافز اليه التأليف بين فخامة الشأن والطموح الى ردع ايران وانشاء توازن مع اسرائيل. والحراك المتميز لمنطقة الخليج الذي أثر في ايران وفي العراق تأكد بصورة أقوى حينما جددت ايران برنامجها الذري العسكري في ثمانينيات القرن الماضي ردا مباشرا على برامج العراق وبسبب حرب السنوات الثماني بين الدولتين التي نشبت في العقد نفسه.

وفيما يتعلق بليبيا، طمح القذافي في سبعينيات القرن الماضي الى تطوير قنبلة ذرية أو شرائها وكان ذلك في الأساس عن اعتبارات فخامة شأن ومكانة اقليمية في العالم العربي. وفي حين ذُكرت القضية الاسرائيلية في هذا النطاق، "لم يجرِ الفحص عن البُعد الاستراتيجي في السعي الى القدرة الذرية بصورة عميقة، ويمكن ان نزعم انه كان لتقديرات فخامة الشأن والمطامح السياسية منذ البدء وزن أكبر من تقديرات عسكرية في بواعث النظام الى احراز سلاح ذري. كان المشروع الذري واحدا من عدة محاولات من ليبيا للحصول على تقنيات مختلفة يبدو أنها نبعت من طموح الى ان تعتبر دولة تملك تقنية عسكرية حديثة متقدمة لا عن تقديرات براغماتية لمشكلات أمنية محددة وحاجات عسكرية". في منتصف ثمانينيات القرن الماضي أصبحت اسرائيل عاملا أقل أهمية في تقديرات ليبيا حينما صرفت انتباهها الى حفظ أمنها في مواجهة هجمات امريكية، وبدأت ليبيا في تسعينيات القرن الماضي تفحص مرة اخرى عن جدوى جهودها لاحراز القدرة الذرية بازاء جدواها المشكوك فيها باعتبارها عاملا يردع الهجمات.

بقي برنامج سوريا الذري في أكثره لغزا، لكن فيما يتعلق باسرائيل يبدو ان سوريا قد رأت السلاح الكيماوي الذي تملكه طوال سنين كثيرة، رأته رادعا كافيا. ليس معلوما ما هي البواعث على برنامجها الذري سوى حقيقة انه نُفذ بمساعدة كوريا الشمالية، لكن بسبب علاقات الاسد القريبة بالنظام في ايران وتعاون ايران الدائم مع كوريا الشمالية في المجال غير التقليدي، فمن المنطق ان نفترض ان الثلاث: كوريا الشمالية وايران وسوريا كانت صلتها بهذا القرار أكبر من صلة مصلحة سوريا باحداث توازن مع اسرائيل.

ان مصر هي الدولة ذات أقوى باعث في المنطقة على الاتجاه الى المسار الذري ردا مباشرا على اسرائيل، وهي التي وزنت في واقع الامر هذا الخيار في مطلع ستينيات القرن الماضي حينما بدأت تعمل على برنامج خاطف في مجال الصواريخ البالستية بمساعدة المانيا. ومع ذلك تخلت مصر في أواخر ستينيات القرن الماضي عن مشروع الصواريخ، وتعزز حقيقة توقيعها على ميثاق منع انتشار السلاح الذري في 1981 الظن أنها استقر رأيها على عدم العمل على تحقيق برنامج ذري عسكري. وبعد ذلك أشارت معركتها المصممة على ضم اسرائيل الى ميثاق منع انتشار السلاح الذري الى اهتمامها الكبير بافشال قدرات اسرائيل الذرية في ظاهر الامر لكنها فعلت ذلك بواسطة معركة دبلوماسية. هذا الى ان ما قاد مصر لم يكن خوفا أمنيا من اسرائيل كما يشهد على ذلك توقيع مصر على اتفاق السلام في 1979 من غير ان تشترط انضمام اسرائيل الى ميثاق منع انتشار السلاح الذري، بل اشتغلت مصر أكثر بمسائل القيادة الاقليمية التي تُرى اسرائيل متحدية لها بسبب تفوقها النوعي الاستراتيجي. وقد أملت مصر في تسعينيات القرن الماضي بدل ان تنشيء توازنا مع اسرائيل "ان تعيد اسرائيل الى حجمها الطبيعي" بحيث لا تعوق جهود مصر عن تبوؤ مكانتها باعتبارها زعيمة الدول العربية، من جديد.

من المهم ان نذكر ان دول الشرق الاوسط لم توافقها على ذلك بالضرورة في القضية الذرية ولا باعتبارها مجموعة تعمل بصورة مشتركة على مواجهة اسرائيل. ان دولا عربية اخرى فضلا عن أنها لم ترَ برنامج سوريا الذري عامل توازن مشترك في مواجهة اسرائيل، فضل كثيرات منها، مثل اسرائيل حقا، ألا تحرز سوريا ألبتة قدرة ذرية عسكرية. ولم يُسمع صوت مصر والعربية السعودية ودول اخرى بعد هجوم اسرائيل على المنشأة الذرية السورية في ايلول 2007. وهي في الحقيقة لم تؤيد هذا الاجراء علنا لكن يجدر ان نذكر عدم تنديدها باسرائيل. ومن المعلوم اليوم كذلك انه توجد عند دول الخليج ودول اخرى معارضة واضحة لايران وخوف من برنامجها الذري. وهنا ايضا لا يُرى تحول ايران الى دولة ذرية نوعا ما من الرد الاقليمي الجماعي على اسرائيل. ان الواقع في حقيقة الامر عكسي لأن اجراء ايران لا يُرى تهديدا اقليميا فحسب بل يُرى اجراءا قد يستوجب ردا بصورة تختلف عن الرد على اختيار اسرائيل الذري.

سياسة اسرائيل الذرية: الغموض والردع بازاء تهديدات وجودية

أسهمت خصائص سياسة اسرائيل الذرية في قدرة دول اخرى في المنطقة على الامتناع عن شعور بالضغط لاحداث توازن في مواجهة القدرة المنسوبة الى اسرائيل، برغم ان من المؤكد أنها لم تكن راضية عن ذلك. ان أهم مميز في هذا السياق يتناول حقيقة ان اسرائيل نجحت (برغم الغموض) في ان تنقل اليها رسالة تُبين ان قدرتها الذرية مخصصة فقط لتكون ردعا لتهديد وجودي. على حسب بحث عميق تتبع صورة اسرائيل الذرية حتى بدء تسعينيات القرن الماضي، بدا انه برغم سياسة غموض اسرائيل أدركت الدول العربية ما هي خطوط اسرائيل الحمراء في المجال الذري. واستوعبت ان اسرائيل تسعى الى ان تردع ما يتحدى فقط حقيقة وجودها. ان حقيقة ان اسرائيل كانت مشاركة في مواجهات عسكرية تقليدية كثيرة جدا منذ ان تجاوزت في ظاهر الامر السقف الذري (نهاية ستينيات القرن الماضي) هي شهادة قاطعة على ذلك.

ويمكن ان يُزعم الى ذلك ان مجرد الغموض – الذي هوجم في احيان متقاربة باعتباره اشكاليا بسبب عدم شفافية اسرائيل – خدم في واقع الامر الاستقرار في الشرق الاوسط. فالغموض لم يعق صوغ قواعد لعب على مر السنين تتعلق بردع اسرائيل الذري، وفي مقابل ذلك وعدت اسرائيل بأن تحافظ على ظهور ضئيل جدا في المجال الذري وألا تصرح تصريحات تهديد تتصل به.

من المنطق ان نفترض ان الشفافية الشديدة من قبل اسرائيل ما كانت لتُفسر على أنها خطوة لبناء الثقة من قبلها بل بالعكس – كان هذا الامر سيُرى عملا معاديا يرفع مستوى التوتر في المنطقة. وفي المقابل مكّن الغموض الدول من تجاهل الموضوع كما تشاء وتضاءلت نتيجة ذلك التوترات حول التأثيرات العسكرية للقضية الذرية. في سبعينيات القرن الماضي قال رئيس مصر السادات انه اذا صرحت اسرائيل علنا وهددت بالسلاح الذري فستضطر مصر الى الرد. وكان يمكن ان يُفهم من ذلك انه اذا حافظت اسرائيل على نغمة منخفضة فلن تضطر مصر نفسها الى التوجه الى الحل الذري. فمصر تستطيع قبول الوضع أو ان تحاول تغييره بالضغوط الدبلوماسية.

"انتاج ايران"

من المهم في النهاية الفحص عن تقديرات ايران. ففي فترة تحل فيها الواقعية الجديدة محل الواقعية الكلاسيكية باعتبارها نظرية رائدة في العلاقات الدولية، يحل تصور "الأمن" (من اجل البقاء) بصورة شاملة محل تصور "القوة" عند هانس مورغنتاو باعتبارها العامل الدافع المركزي لسلوك الدولة في المجال الدولي. لكن بخلاف الميل السائد اليوم الى افتراض ان التفسير لجميع الاجراءات في العلاقات الدولية هو في الأساس أمني/ دفاعي – ينبغي ألا نرى أمر ايران الساعية الى القدرة الذرية عملا موضوعه المركزي هو سعي دولة وضع راهن الى الأمن. ينبغي بدل ذلك ان نفهم سعي ايران الى القوة والتأثير في المنطقة باعتباره أشد ملاءمة لتأكيد مورغنتاو السابق المتعلق بمركزية القوة والعظمة.

ان ايران دولة رجعية ذات مطامح الى هيمنة اقليمية في الشرق الاوسط، والسلاح الذري سيحث كثيرا قدرتها على الدفع الى الأمام بأهدافها الاقليمية من غير ان تخشى ردا في المقابل، فلا أحد سيكون معنيا بالمخاطرة ببدء حرب مع ايران الذرية وذلك على الأقل في سيناريو لا تستعمل فيه ايران السلاح الذري استعمالا فعليا. ان الخطر في هذا السياق ليس من ان ايران قد تعمل على نحو غير عقلاني بل من ان سلوكها سيُساوق توجها عقلانيا ومحسوبا جدا من قبلها يُبين انه يجب عليها ان تسعى الى سلاح ذري يدفع عنها محاولات المس باجراءاتها لاحراز السيطرة – التي ستأتي بالضرورة على حساب دول اخرى في المنطقة.

في حين تتناول خطابة ايران على الدوام اسرائيل، فانه يوجد لتقدمها الذري صلة ضعيفة جدا هذا إن وجدت أصلا، بحقيقة ان اسرائيل تُرى دولة ذرية، أو بالباعث الايراني على معادلة هذه القدرة. ان ما قد يبدو انه الحراك الذي جوهره علاقات اسرائيل بايران – ولا سيما في ضوء الخطابة الحالية التي تميز الطرفين – ليس مسارا متبادلا لاحراز توازن ذري. فكل واحدة من الدولتين تعمل بحسب جدول اعمالها، لكنهما غير متعلقين بعضهما ببعض بصورة متكافئة.

في حالة ايران فان مصدر عدائها المفرط لاسرائيل لا يكمن في مطالب مناطقية أو مظالم تاريخية سببتها لها اسرائيل بل في عوامل لا يوجد لاسرائيل تأثير فيها وهي ايديولوجية اسلامية وحماسة دينية نشأتا في ثورة 1979. وليس هذا من نتائج القضية الذرية. ان اسرائيل ترى ان ايران الذرية لن تُسهم في التوازن وفي الاستقرار. تخشى اسرائيل من مقاصد ايران الذرية وهي خشية تزداد بصورة كبيرة بسبب الخطابة الدائمة المهددة التي تغذي نفسها من قبل النظام الحالي. ان تهديدات اسرائيل باستعمال القوة العسكرية لمواجهة منشآت ايران الذرية هي نتيجة هذه الخشية. وبسبب العداوة الايرانية المفرطة والفروق الكبيرة جدا بين حجمي الدولتين (من جهة عدد السكان والجغرافيا) فلن يكون الوضع بين اسرائيل وايران الذرية متعادلا. هذا الى انه مع عدم وجود أية قناة اتصال بينهما فان الواقع الجديد ايضا لن يكون مستقرا بل سيكون مشحونا بالأخطار مثل تقديرات مخطوءة وتصعيد غير متعمد مع احتمال مدمر.

يبدو ان دولا اخرى في الشرق الاوسط لا تقل عن اسرائيل معارضة لفكرة ان تكون ايران الذرية بمنزلة اسهام في الاستقرار في المنطقة. اذا أصبحت ايران ذرية فهناك سبب جيد لاعتقاد ان عددا من الدول الاخرى في المنطقة ستُظهر باعثا قويا على الانضمام الى السباق الذري. وبخلاف عدم اهتمامها الذي تُظهره بمعادلة التهديد مع اسرائيل، يلاحظ بوضوح أنها ترى ايران تهديدا. في سني حكم مبارك صدرت تصريحات واضحة جدا عن وزير الخارجية المصري آنذاك أبو الغيط وعن مبارك نفسه تتحدث عن خطر ايران في المنطقة بسبب ميلها الى التدخل في الشؤون الداخلية لدول اخرى في مقابل سعيها الى القدرة الذرية العسكرية. على أثر الثورة في مصر سُمعت في السنتين الاخيرتين نغمة أكثر ليونة تتعلق بايران لكن الرئيس مرسي ايضا لا يوحي بشعور انه يخطط للجري الى ذراعي ايران المفتوحتين، ومن المنطق ان نفترض ان العداء الأساسي بين الدولتين بسبب السيطرة في المنطقة لن يختفي. اقتُبس من كلام حاكم العربية السعودية الملك عبد الله في وثائق "ويكيليكس" قبل بضع سنوات انه يحث الولايات المتحدة على استعمال القوة العسكرية على منشآت ايران الذرية من اجل "قطع رأس الأفعى".

الاستنتاجات

لا تساوق تخمينات وولتس المتعلقة بتطوير سلاح ذري في الشرق الاوسط والآثار التي ستكون لذلك على التوازن والاستقرار في المنطقة، لا تساوق الفحص والتحليل التاريخيين. وكذلك الحال ايضا فيما يتعلق بتنبؤاته باستقرار أكبر في الشرق الاوسط في أعقاب حصول ايران على القدرة الذرية. ان القدرة الذرية المنسوبة لاسرائيل تناقض في الحقيقة رغبة جاراتها لكنها ليست مصدر عدم استقرار، وليست هي سبب الازمة الحالية مع ايران. ان سياسة غموض اسرائيل والحفاظ على التواضع في المجال الذري، مع رسالتها التي تُبين الخطوط الحمراء للتهديد الوجودي قد ساعدت في واقع الامر على تخفيف التوترات وأسهمت على نحو عام في استقرار المنطقة أكثر من الاضرار بها. وتعبر المحاولات الفعلية لدول اخرى في المنطقة للدفع قدما ببرامج ذرية خاصة بها وتؤكد حقيقة ان إحداث توازن مع اسرائيل ليس في مقدمة اهتمامات هذه الدول.

يمكن ان نستنتج من كل ما قيل آنفا فيما يتعلق بتطبيق نظريات العلاقات الدولية على معضلات استراتيجية تواجهها دول في العالم الحقيقي. اذا تجاهلنا المشكلات المتعلقة بالقدرة على التكهن والتنبؤ للنظريات (وهي نقطة يعترف بها وولتس)، فان النظريات قد تؤدي بنا الى استنتاجات خطأ في سياق الحاضر ايضا حينما تعتمد على فروض نظرية تتناول سلوكا في الماضي، من غير الفحص العميق عن الحقائق التاريخية ذات الصلة. ان تطبيق نظريات باعتبارها أطر تحليل تساعد على جعل الواقع اصطلاحيا هو بلا شك جانب مهم من بحث العلاقات الدولية، لكن اللزوم المطلق لنظريات تقليصية قد يكون اشكاليا.

ينبغي القيام بتقدير من جديد لفرض ان السعي الى سلاح ذري يستحثه فقط الحاجات الامنية، وأن ظهوره في الساحة الدولية أو في الساحة الاقليمية يفضي بالضرورة الى عمل متبادل يفضي الى إحداث توازن. وقد أدت هذه الفروض بوولتس الى منظومة كاملة من التشخيصات غير الصادقة وغير المبرهن عليها فيما يتعلق ببواعث ايران على الحصول على القدرة الذرية، وأهمية هذا التطور بالنسبة لدول في المنطقة.

يمكن ان نستخلص ايضا عدة ادراكات تتعلق بالرقابة على السلاح في المجال غير التقليدي في الشرق الاوسط. ان لحقيقة ان ايران لا تبعثها في الأساس اعتبارات الامن الدفاعي في كل ما يتعلق بالمشروع الذري آثارا لا تتعلق بالتفكير في ايران نفسها فقط بل في سياق مؤتمر الـ "دبليو إم.دي.اف.زد" (مؤتمر منطقة متحررة من سلاح الابادة الجماعية في الشرق الاوسط)، الذي قد يعقد في هلسنكي في الاشهر القريبة. وقد حصرت المسيرة المتعددة الأطراف التي سعت الى تسوية رقابة السلاح في الشرق الاوسط في مطلع تسعينيات القرن الماضي (إي.سي.آر.اس – مجموعة العمل والرقابة على السلاح والامن الاقليمي) قد حصرت عنايتها في قضايا أمن اقليمي ولا سيما فكرة خطوات تبني الثقة والأمن. للخطوات التي تبني الثقة دور حينما تكون للدول مصلحة مشتركة في التعاون على أهداف مشتركة، لكن يصعب عليها ان تفعل ذلك بسبب مستوى التوتر والعداوة و/ أو عدم الثقة التي تميز العلاقات بينها. ان الافتراض المقبول في جهود الرقابة على السلاح والامن الاقليمي هو ان الدول مهددة بصورة متساوية ومتكافئة بسلاح الابادة الجماعية وعندها تصور دفاعي متعلق بهذا السلاح. وحينما يكون هذا هو الوضع فان الافتراض هو انه يمكن التغلب على المخاوف المتبادلة باجراء اتصال أفضل بين الأطراف يُبين بصورة أفضل نواياها ويخفف مستوى عدم اليقين بينها. ومع ذلك فان هذا الافتراض لا يساوق حقيقة ان ايران تحثها في الأساس مطامحها الى هيمنة اقليمية لا الخشية الجوهرية على أمنها. اذا كانت ايران تحركها التقديرات الهجومية فلا يوجد أساس عملي للجهود التي ترمي الى انشاء أساس مشترك بين الدول يقوم على مخاوف أمنية متكافئة بينها.

ان نوع مطامح ايران الذرية تثير السؤال عن كثير من الافتراضات الرائجة منذ زمن بعيد والمتعلقة بسلاح الابادة الجماعية وآثاره على الشرق الاوسط. ويبدو انه يوجد مكان لتوجه جديد نحو جهود الرقابة على السلاح في المنطقة بل قد يكون هذا الامر ضروريا.

*  *  *

العراق والفضاء العربي بعد الاحتلال الامريكي*

بقلم: يوئيل جوجنسكي

منذ انسحبت القوات الامريكية من العراق في كانون الاول 2011 سار العراق مسافة لتوثيق علاقاته مع العالم العربي ومحاولة إزالة الصورة التي علقت به وهي انه ينفذ أوامر ايران في واقع الامر.  وبدأ من جملة ما بدأ سلسلة اجراءات ترمي الى محاولة اعادة التوازن الى علاقات العراق الخارجية وإحياء أحلاف قديمة وتحريك مشروعات اقتصادية. وفي المقابل أصبحت جارات العراق العربية التي امتنعت في السنين الاخيرة عن توثيق العلاقات به بسبب صلاته بايران، أكثر تفهما الآن مما كان في الماضي لكونها قادرة بتحسين العلاقات السياسية والاقتصادية به على التأثير في صبغته ومبلغ التأثير الايراني فيه. وقد تم في السنين الاخيرة بالبحث تأكيد مبلغ التأثير الايراني في العراق وآثاره. ان الفحص عن علاقات العراق بالفضاء السني وبجاراته العربيات باديء الامر يمكن ان يكون طريقة ناجعة لاستيضاح الى أين يتجه العراق.

ان تحسين العلاقات بين العراق والفضاء العربي تكمن فيه طاقة على المساعدة في حل بعض المشكلات الداخلية في العراق والاسهام في استقرار اوضاعه. وذلك بسبب الصلات القائمة بين بعض جاراته وأطراف قوة في داخل الدولة. ان الدول المحاذية للعراق – ليست فقط غير مقطوعة عن التوترات العرقية والطائفية التي تميزها بل تستغل هذه التوترات لتدفع الى الأمام بمصالحها التفصيلية. ان سقوط نظام صدام جعل جارات العراق السنية تخشى "تأثير دومينو"، يفضي الى زيادة التأثير الايراني في المنطقة. ويبدو ان هذا الخوف من "هلال ايراني/ شيعي" قد عظم بعد خروج آخر الجنود الامريكيين من الدولة. فالدول العربية تخشى ان تدخل ايران الفراغ الذي خلفته الولايات المتحدة وتريد لذلك ان تقوي وزن أطراف سنية و/أو شيعية علمانية في المسار السياسي والاقتصادي لتكون معادلة للتأثير الايراني. الى الآن كان وجود القوات الامريكية يعوق بقدر ما قدرة التأثير الايراني في العراق. والآن بعد خروجها أصبح العراق مركز منافسة بل مواجهة بين ايران وتركيا والدول العربية وفي مقدمتها العربية السعودية ودول الخليج.

تريد هذه المقالة ان تُبين انه برغم التقارب الموزون بين عدد من الدول العربية والعراق ما تزال توجد الشكوك ورواسب الماضي بين الطرفين بسبب صبغة القيادة العراقية وسياسة من يرأسها، اللذين يبدو أنهما يبتعدان عن التعدد الطائفي والسياسي.

حاولت جميع الدول المحاذية للعراق منذ سنة 2003 ان تزيد تأثيرها فيه. بل ان ايران قد تكون بالغت أكثر منها جميعا لأنها أرادت ان تمنع العراق من ان يكون تهديدا لها مرة اخرى من جهة عسكرية أو سياسية أو عقائدية دينية. ولايران اهتمام خاص بما يجري في العراق الذي لها معه أطول حدود تبلغ نحوا من 1500 كم، ولها مصلحة في رعاية المنطقة الشيعية (مع اضعاف الهوية السنية) الكبيرة في جنوب العراق التي تسيطر على المنفذ الاستراتيجي الى الخليج حيث يوجد نحو من نصف احتياطي النفط العراقي. ان التدخل الايراني في العراق يحركه ما تراه مجال تأثير ايرانيا طبيعيا. وهو يستمد من الطموح الى الهيمنة على المنطقة وادراك ان العراق محطة مهمة في الطريق الى احراز هذا الهدف. وتريد ايران ايضا الحفاظ على الانجازات التي لا يستهان بها التي حصدتها (بتفضل من الولايات المتحدة بقدر كبير)، مع ضعف الدولة العراقية وصعود المركب الشيعي فيها. قد تكون ايران اليوم هي القوة الخارجية ذات أكبر تأثير في العراق. ومع ذلك يمكن ضبط هذا التدخل بقوى خارجية اخرى ذات تأثير في العراق.

في السنين الأخيرة نظرت جارات العراق اليه باعتباره "نبتة اجنبية" وذراعا ايرانية ومركز ارهاب في الأساس يحسن الابتعاد عنه. وقد فُرضت عزلة العراق عليه من جاراته العربيات بقدر كبير لكن العراق أصبح سلبيا في السنين الاخيرة ايضا في علاقاته الخارجية بسبب ضعف بنيته وانقسامه الداخلي الذي عبر عن نفسه بعدم وجود اتفاق بين القوى السياسية المركزية. لكن يبدو انه يريد لنفسه الآن أكثر مما كان في الماضي دورا أكثر مركزية في ادارة برنامج العمل العربي العام والعربي الايراني. وفي هذا النطاق استضاف العراق قمة الجامعة العربية في بغداد في آذار 2012 بل أراد التوسط بتأييد من ايران بين ايران والمجتمع الدولي في القضية الذرية، واستضاف جولة محادثات في الشأن الذري في بغداد في أيار 2012. وكانت بغداد ايضا محطة مهمة في رحلات مبعوث الامم المتحدة والجامعة العربية كوفي عنان في محاولاته لصوغ اتفاقات حل الوضع في سوريا.

العراق والعرب

ترك الفضاء العربي العراق لرحمة ايران. فقد رفضت الدول العربية توثيق علاقاتها بالعراق، لأنها رأت ان حكومة المالكي تنفذ أوامر طهران. وعلى العموم فان الرؤية العربية ترى انه بسبب القرب الجغرافي والصلات التاريخية والهوية الطائفية بين ايران وقيادة العراق الحالية فان تأثير ايران في العراق لا يمكن منعه. وعلى ذلك لم يكن ما يدعو حتى الآن الى توثيق العلاقات به. لكن جارات العراق العربيات لا ينظرن في سلبية الى ما يجري في داخله كما كانت الحال في الماضي. فبعد انسحاب القوات الامريكية يبدو انه يوجد استعداد عربي ما لتعميق العلاقات بالعراق وزيادة الرقابة بذلك على ما يجري فيه وذلك قبل كل شيء لمحاولة صد تأثير ايران فيه. ويريد العراق من جهته توثيق التعاون مع الدول العربية ايضا ليكون ذلك منفذا – كما يأمل – الى محو بعض ديون الماضي، وتجديد الاستثمارات فيه، ومنع التدخل السلبي (العربي) في شؤونه الداخلية بل ليكون أداة ضغط ما على طهران.

في مطلع 2012 كان العراق يُرى انه قطع مسافة عائدا الى حضن العالم العربي. فقد وافق رئيس وزراء العراق المالكي على منح شركة الطيران الوطنية الكويتية إذنا بالطيران والهبوط وأهم من ذلك ان يدفع 300 مليون دولار عن بعض أضرار الاحتلال العراقي للكويت (تنازلت الكويت مقابل ذلك عن دين بلغ مليار دولار لشركة الطيران الوطنية الكويتية). ووقع المالكي في آذار 2012 مع العربية السعودية على اتفاق على تبادل أسرى (100 عراقي سجناء في العربية السعودية و70 سعوديا سجناء في العراق)، بل وعد بمحاولة ان يستبدل بالاعدام الذي حُكم به على خمسة مواطنين سعوديين (الاتفاق يقتضي موافقة البرلمان العراقي). وامتنع كذلك عن دعوة دول غير عربية كتركيا وايران الى مؤتمر القمة العربية في بغداد الذي عقد في آذار 2012 بخلاف مؤتمرات سابقة. وفيما يلي سيتم تحليل مواقف الدول العربية من العراق مع حصر العناية في جاراته القريبات.

ان الخوف من ايران تظهر آثاره على سياسة العربية السعودية في المنطقة كلها وليس العراق شاذا. فمنذ 2003 امتنعت العربية السعودية عن تدخل سياسي أو عسكري سافر في شؤون العراق. وبخلاف ميادين اخرى امتنعت العربية السعودية ايضا عن اجراء أي اتصال ذي شأن بالحكومة في بغداد. وفي مقدمة اهتمامات العربية السعودية: منع انتقال المواجهة في العراق الى داخلها (تحصر عنايتها في بناء عائق أمني على طول حدودهما المشتركة وفي تعزيز مراقبة الداخلين اليها)، والاهتمام بالمصالح السنية وفوق كل شيء – محاولة صد تأثير ايران المتزايد في العراق.

ان زيادة تصدير النفط العراقي في الأمد القريب تغطي على اقتطاع جزء من النفط الايراني من الاسواق وتجعل سعره معتدلا – وهذا الامر يناسب المصلحة السعودية – لكن العربية السعودية تخشى في الأمد البعيد من ان اعادة بناء صناعة النفط في العراق (تصدير النفط يشكل 95 في المائة من ايرادات الحكومة في بغداد) قد يكون على حساب مكانتها باعتبارها مصدرة نفط سباقة. وتخشى دول الخليج ايضا ان يبني العراق قوته العسكرية من جديد ويعاود تهديدها بسلاح امريكي متقدم هذه المرة، هذا الى ان العراق أصبح أكثر تعاونا مع ايران ويبدو أنهما ينسقان الآن سياستيهما النفطيتين بغرض تحدي الهيمنة السعودية على منظمة "الاوبيك" (نذكر ان حكومة العراق نددت ايضا بدخول جنود الحرس الوطني السعودي الى البحرين في آذار 2011).

حذّرت الرياض الولايات المتحدة قبل غزو العراق من انه اذا نُحي صدام فقد تُعمق ايران سيطرتها هناك بل قد تقوي مكانتها في الجنوب الشيعي. وفضلت العربية السعودية ان تسيطر قوة سنية وإن كانت مضطهدة، على الحكم في بغداد لتمنع بذلك كل احتمال لتقوي الشيعة. ان الغزو الامريكي للعراق الذي قدّم كما تقول العربية السعودية، العراق الى ايران "على طبق فضة"، أفضى بالعربية السعودية الى زيادة مساعدتها للأقلية السنية في العراق التي شاركت في النضال الدامي للعصابات المسلحة الشيعية عن صبغة الدولة العراقية (ذهب سعوديون كثيرون الى العراق لمحاربة الامريكيين والشيعة معا). بل اتهم رئيس وزراء العراق المالكي رئيس الاستخبارات السعودي السابق الأمير مُقرن بانشاء قوة سنية مسلحة عملت على مواجهة العصابات المسلحة الشيعية وهو ما عزز الحرب الأهلية في الدولة. افتتح العراق سفارة في الرياض في 2007 لكن العربية السعودية امتنعت الى الآن عن ارسال سفير منها الى بغداد (برغم أنها التزمت للولايات المتحدة بأن تفعل ذلك) – وكانت تلك اشارة واضحة الى أنها لا تثق بحكومة العراق. وترى العربية السعودية العراق وقيادته الشيعية أداة تخدم الايرانيين – ومنذ انتُخب المالكي رفض الملك عبد الله لقاءه بشدة. ومع ذلك بدت سنة 2012 في البدء تشير الى بدء تغير ما في العلاقات بين الدولتين، وتم الافادة ان العربية السعودية تزن فتح الممر الحدودي الوحيد بين الدولتين الذي كان مغلقا (باستثناء مرور حجاج قليلين) منذ 1991، وفي مطلع 2012 أعلنت العربية السعودية أنها تُعين لأول مرة منذ عشرين سنة سفيرها في الاردن سفيرا (غير ساكن) في العراق.

تحاول حكومة العراق ان تعرض موقفا معلنا متزنا من الأحداث في سوريا وإن كانت قد حاولت ان تكف جماح قرارات الجامعة العربية في شأنها، وأعلنت ايمانها بقدرة النظام في سوريا على تنفيذ "اصلاحات".

سيكون سقوط الاسد قذى في عيون قيادة العراق الشيعية التي تخشى هيمنة سنية في "سوريا الجديدة"، وقد يحصل السنيون في العراق على تشجيع في أعقاب تحسن مكانة اخوتهم السوريين ويطلبون لذلك تحسين مكانتهم في العراق على حساب الشيعة وهو شيء قد يكون تحديا لحكومة المالكي. جرت على علاقات سوريا بالعراق تقلبات كبيرة في السنوات الاخيرة. فقد اتهم العراق نظام الاسد زمن الاحتلال الامريكي بأنه لا يفعل ما يكفي لمنع دخول جهات ارهابية (ان حركة نشطاء الارهاب هي الآن في اتجاه عكسي بحيث يخرج عراقيون سنيون لمحاربة الاسد في حين يدخل عراقيون شيعة للمحاربة معه). وقد جددتا العلاقات الدبلوماسية بينهما في 2006 لكن على أثر سلسلة عمليات قاسية وقعت في بغداد في آب 2009 أعادت الدولتان سفيريهما واستعانتا بوساطة تركية للتغلب على الاختلافات في الرأي. ومع ابتعاد نظام الاسد عن الدول العربية بسبب الحرب الأهلية في سوريا سخنت علاقات الاسد بحكومة المالكي. ورفضت القيادة العراقية كما قلنا آنفا ان تنضم الى الضغط الذي استعملته الجامعة العربية على سوريا وحاولت ان تضع نفسها في موقف وسيط بين النظام السوري والمعارضة، بل يبدو أنها ساعدت ايران على اجازة وسائل قتالية الى النظام السوري، وأُبلغ في هذا السياق ان رئيس الولايات المتحدة اوباما احتج أمام المالكي على مرور طائرات ايرانية محملة بالمعدات العسكرية من الأجواء العراقية متجهة الى سوريا. وتم تجديد الرحلات الجوية برغم توجه الرئيس الامريكي هذا.

عارض الاردن الحرب في 2003 لكنه منح الامريكيين مساعدة عسكرية صامتة وتوجه كثيرون من أبنائه لمحاربة الشيعة في العراق، وكان ذلك بقدر كبير بالهام أبي مصعب الزرقاوي وقيادته. وكان الملك الاردني أحد القادة العرب القلة الذين زاروا بغداد بعد سنة 2003 بل عين سفيرا في بغداد لكن الاردنيين ينتقدون على الدوام ما يبدو انه في زعمهم دفعا متواصلا للسنيين الى الهوامش. ونذكر ان العملية التفجيرية الكبيرة الاولى بعد الغزو الامريكي وقعت في السفارة الاردنية في بغداد (آب 2003). وبرغم وجود صلات قبلية بين الدولتين تتجاوز الحدود بخلاف جارات العراق الاخرى فان للاردن قدرة محدودة على التأثير فيما يجري في العراق. ان الدولة – التي كانت حليفة العراق ومخرجها الوحيد الى باقي العالم في سني الحرب الطويلة وزمن العقوبات التي فرضها الغرب عليها – تتحفظ من توثيق العلاقات بالعراق ولا سيما بعد ان تولى الشيعة زمام السلطة وأصبحت قيادتها أكثر تماهيا مع ايران.

ان كل تدهور ولا سيما للعلاقات بين السنيين والشيعة في العراق قد يؤثر في الاردن ايضا كما حدث في 2005 حينما قتل مخرب منتحر اردني 130 عراقيا أكثرهم شيعة في الحلة جنوبي بغداد. وهذا التدهور في المقابل سيجعل العراق مرة اخرى مركزا اقليميا للارهاب – وهو خوف تحقق زمن العمليات الانتحارية في عمان في تشرين الثاني 2005. في الآونة الأخيرة يفضي التحسن النسبي للوضع الأمني بعراقيين كثيرين – من بين نحو من نصف مليون عراقي وجدوا ملجأ في الاردن – الى العودة الى العراق. وقد وقعت الدولتان في الحقيقة على اتفاق منطقة تجارة حرة في 2009 وإن كان العراق لم يُجزه بعد. ويستطيع العراق ان يستعمل ميناء العقبة استعمالا أكبر بسبب الضغط على موانئه ويستطيع الاردن ان ينوع مصادر طاقته. فالنفط والغاز من العراق يستطيعان ان يعوضا عن النقص الذي نشأ في المملكة في أعقاب صعوبات نقل الغاز من مصر.

في آذار 2012 أجرى أمير الكويت زيارة تاريخية لبغداد. لكن الكويت ما تزال متحفظة من توثيق العلاقات بالعراق وما فتئت رواسب الماضي على حالها بقدر كبير. وما زالت الكويت ترى العراق تهديدا محتملا في المستقبل ولهذا فان خطوات تطبيعها مع العراق بطيئة وبقيت مسائل مثل مفقودي الحرب ورسم الحدود المشتركة (وحقول النفط على امتدادها) ودفع تعويضات كاملة عن أضرار الحرب – بلا حل في أكثرها. وما تزال على سبيل المثال تُفرض على العراق عقوبات تحت الفصل السابع من ميثاق الامم المتحدة. وبرغم الزيارات والتصريحات الايجابية المتبادلة فان الارتياب الكويتي بالعراق مستمر لحقيقة ان بغداد تحكمها حكومة شيعية تُرى في الكويت "حكومة دُمى" ايرانية. والى ذلك انتقد ساسة عراقيون الكويت لبناء ميناء في شرق جزيرة بوبيان قرب الحدود بين الدولتين – وهو ميناء يزعم العراقيون انه سيضر باقتصادهم بأن يحول التجارة البحرية الى الكويت بل ان بعضهم يثيرون شبهات جديدة تتعلق بمشروعية الحدود بين الدولتين. بل ان الكويت في عدة فرص في السنتين الاخيرتين رفعت استعداد جيشها ونشرته في جزيرة بوبيان وعلى طول الحدود مع العراق وبخاصة بعد تهديدات عصابات مسلحة شيعية وعلى رأسها "كتائب حزب الله"، ومحاولات اجتياز الحدود واطلاق نار على سفارة الكويت في بغداد (ترك على أثره السفير الكويتي العراق مؤقتا) بل اطلاق صواريخ من العراق على الكويت.

يريد العراق ان يوثق علاقاته لا مع جاراته القريبة فقط فقد منح تونس اموالا وأرسل اليها مستشارين لدعم مسار الانتخابات هناك بل انه زود ليبيا التي جددت علاقاتها الدبلوماسية بالعراق بعد عقد من القطيعة، بمستشارين فنيين لمساعدتها على القضاء على الترسانة الكيميائية التي بقيت من حكم القذافي. ووقع مع مصر على اتفاق لاعادة الاموال التي هي مدين بها للعمال المصريين الذين عملوا في العراق في عهد صدام حسين ولم يتلقوا رواتبهم الى الآن.

أكد المالكي في خطبته التي خطبها احتفالا بـ "يوم الأسير" في حزيران 2012 ارادة حكومة العراق ان تفتح "صفحة جديدة" مع المنطقة العربية: "على العالم ان يعترف وان يشجع السياسة الخارجية الجديدة الودية للعراق"، قال. وكان نقل رئاسة الجامعة العربية في 2012 الى العراق اشارة في نظر كثيرين الى بدء عودة العراق الى حضن العالم العربي. كانت الدول العربية في البدء متحفظة من عقد القمة في العراق بسبب موقفه من الازمة في سوريا ودفع السنيين عن مراكز القوة في العراق وبسبب بواعث أعمق متصلة بمبلغ التأثير الايراني في سياسته (وقد حضر القمة آخر الامر عشرة فقط من اثنين وعشرين رئيس دولة عربي، ولم يحضرها أي رئيس دولة من الخليج سوى الأمير الكويتي). أفضى تغيير اللغة "التكتيكية" والمؤقتة للقيادة العراقية نحو نظام الاسد في ربيع 2012 كما يبدو الى تقارب المواقف بينه وبين العربية السعودية ودول الخليج التي قادت سياسة صارمة موجهة على نظام الاسد. بل ان العراق أيد قرار الجامعة العربية الذي دعا الى انشاء قوة سلام عربية دولية وامداد المعارضة السورية بمساعدة سياسية ومادية – وهو قرار كانت قطر والعربية السعودية المبادرتين اليه. ومع ذلك عاد الطرفان سريعا جدا الى الشك والاتهامات المتبادلة وظل العراق يحاول ان يصد كل قرار مهم للجامعة العربية معادٍ للاسد.

فيما يتعلق بالسياسة الداخلية، تنتقد جارات العراق جهود المالكي لتركيز صلاحيات الحكم في يديه أكثر وفي دفعه اشخاصا أعيانا سنيين الى خارج منظومة اتخاذ القرارات. وتتم هذه التطورات وبين يديها تعالي اصوات الاحتجاج من قبل فصائل سنية تدعو الى حكم ذاتي اقتصادي وأمني للمحافظات التي تسكنها أكثرية سنية وهي: الأنبار وديالا وصلاح الدين. وبرغم ان دستور 2005 يبيح للمحافظات تدبير امورها الاقتصادية والامنية على نحو مستقل، أعلن المالكي في عدد من المناسبات انه لن يُمكّن من ذلك. ويبدو في الظروف الحالية ان مصالح المالكي وايران متلائمة ويبدو ان رئيس وزراء العراق محتاج أكثر مما كان من قبل الى الدعم الايراني لمواجهة خصومه في الداخل. ان الفضاء العربي لا يخشى فقط المسار الذي يزداد زخما في العراق والذي يشمل سيطرة المالكي على كل مراكز القوة السياسية وهدم الاجهزة الديمقراطية الهشة أصلا. فالخشية هي ايضا من سياسة المالكي التي تُرى موالية لايران ولسوريا. ان الصحيفة اليومية العربية "الشرق الاوسط" القريبة من مواقف القيادة السعودية قد بالغت ودعت الدول العربية الى القطيعة مع المالكي بل الى فرض عقوبات اقتصادية عليه. وشحذت الهزة التي أصابت الفضاء العربي منذ مطلع سنة 2011 التوتر السني الشيعي في المنطقة وهي تؤثر تأثيرا سيئا ايضا في العلاقات بين العراق والفضاء العربي السني. وعلى ذلك وبرغم التقارب الموزون الذي وصفناه آنفا ظلت جارات العراق العربيات متشككة في قيادته.

العراق بين الأقطاب

ان المعطيات الأساسية الجغرافية والتاريخية والطائفية تترك للقيادة العراقية مجال مداورة سياسيا ضيقا بين القطبين: ايران من جهة والفضاء العربي – السني من جهة ثانية. وعلى ذلك يضطر قادته الى السير بين قطرات المطر على الدوام. وللعراق بضعة امكانات: فهو يستطيع ان يدخل بالفعل تحت تأثير ايران وان يزيد التعاون الاقتصادي والامني معها. ويحظى العراق بحرية عمل ما في ادارة شؤونه الداخلية لكنه فيما يتعلق بالسياسة الخارجية ينسق مع طهران؛ وفي المقابل يستطيع العراق ان يندمج مرة اخرى اندماجا كاملا في الفضاء العربي وان يتبنى النهج العربي المتعلق باسرائيل بل ان يطلب لنفسه أدوار وساطة وقيادة تُبرز مكانته ومنزلته التاريخية ووزنه الذي أخذ يزداد في سوق النفط؛ وهناك امكان آخر هو ان يطلب العراق ان ينطوي على نفسه بسبب ضعفه وان يحصر عنايته في رأب الصدوع الداخلية واعادة بناء الاقتصاد وان يتبنى لذلك سياسة خارجية براغماتية دون تدخل كبير في الشؤون الخارجية – وان يحاول في الأكثر ان يُحسن بالتدريج علاقاته بجاراته وان يعيد التوازن الى سياسته بالتدريج.

ان اندماج العراق في الفضاء العربي قد يكون مصلحة ايرانية ايضا – فهكذا ستُعطى ايران موطيء قدم وتأثيرا أكبر في الفضاء العربي. ان مقدار تصدير النفط العراقي (أكثر من 2.5 مليون برميل في آب 2012) قد تجاوز المقدار الايراني (الذي هبط الى حضيض لم يكن له مثيل في ثلاثين سنة – تحت مليون برميل في اليوم في تموز 2012)، وهو ما يمكن ان يساعد العراق "على الوقوف على قدميه" ويساعده ايضا "على الاصرار على حقه". وهذه القضية ذات وزن كبير في قدرة العراق على التحرر من قبضة ايران. ان التوترات الطائفية في العراق تزداد حدة؛ وما يزال العنف مهددا، ومع كل ذلك، وعلى خلفية هذه المشكلات، فان انتاج النفط في العراق في ارتفاع وانتاجه في ايران في تهاوي. وكلما امتلأت خزانة العراق أصبح أقل قبالية للتأثر بعوامل خارجية في المستقبل. ان العراق وايران على مر الزمن قد يتحركان نحو توازن جديد يسهم في القدرة على تعديل قوة ايران في المنطقة. ومع ذلك فان الامر يتعلق ايضا بصبغة النظام العراقي وهوية من يرأسه الذي يبدو الآن انه متجه الى تركيز الصلاحيات وهو ما قد يعزز سيطرة ايران على ما يجري في العراق. ويتعلق الامر ايضا بالتطورات في سوريا ومستقبل نظام الاسد. ان قرب النظام العلوي من الشيعة حتى لو كان متكلفا، واحتمال ان تتولى الأكثرية السنية اذا سقط زمام الحكم قد يبعد سوريا عن العراق. وفي هذه الحال قد تطلب ايران تعزيز قبضتها على العراق ليكون شبه "بديل" عن نظام الاسد.

ستُمنح بغداد في سنة 2013 لأول مرة في تاريخها صفة "عاصمة الثقافة العربية" – وهو دور رمزي يعبر عن طموح العراق بعد عقدين من الغياب الى أداء دور مركزي في الفضاء العربي مرة اخرى. ان ضعف المراكز العربية التقليدية على أثر الربيع العربي والتحسن النسبي للوضع الامني الداخلي والزيادة الكبيرة لانتاج النفط في العراق – المعدل الأعلى منذ نحو من ثلاثة عقود – تُسهم في أنفسها في قدرة القيادة في بغداد على العودة الى دور أهم في ادارة برنامج العمل الاقليمي. لكن ما يزال يصعب على الفضاء العربي السني اهمال الهويات الأساسية التي تُعرفه – وعلى رأسها الهوية الطائفية – ومصلحته العليا وهي صد مطامح ايران الاقليمية، وهي قضايا تؤثر في مكانة العراق الاقليمية وفي استقراره وسلامة اراضيه ايضا.

*  *  *

تركيا وشمال العراق: تعميق العلاقات في مواجهة محيط معادٍ*

بقلم: غاليا لندنشتراوس وبركان أكسوي

كانت المشكلة الكردية طوال سنين كثيرة في مركز سياسة تركيا في مواجهة جاراتها في الشرق الاوسط. وتناولت علاقاتها المتبادلة بالعراق خصوصا منذ زمن طويل القضايا المتصلة بالارهاب من قبل حزب العمال الكردستاني، واجتياز تركيا للحدود، في عمليات رد ومطاردات ساخنة وراء الحدود لناس هذه المليشيا الذين لجأوا الى شمال العراق. كان يبدو في الماضي على نحو عام ان لزيادة قوة الاكراد في العراق تأثيرات خطيرة محتملة في سلامة مناطق تركيا. لكن التعاون الذي أخذ يقوى في السنين الاخيرة بين الحكومة التركية والادارة الاقليمية الكردية كان أحد التغييرات السياسية التي تستحق الذكر في الشرق الاوسط. تحاول هذه المقالة ان تؤكد البواعث على اتساع هذا التعاون ورسم حدوده وتقدير التأثيرات الاقليمية لهذه العلاقات. وستتناول المقالة اربعا من قيم التحريك الرئيسة للسياسة التركية نحو شمال العراق: السياسة الداخلية، والحكمة الاقتصادية وبواعث الأمن الاقليمي واعتبارات عولمية. وستحاول المقالة تتبع عدد من المسارات البعيدة الأمد التي تقف من وراء تحول علاقة تركيا بالادارة الاقليمية الكردية وستحاول ايضا ان تلقي الضوء على الفترة التي تلت انسحاب الولايات المتحدة من العراق في سنة 2011 – وهي فترة لم تُبحث بعد بحثا عميقا.

خلفية

كان هدف تركيا الرئيس في حرب الخليج الاولى في سنة 1991 ان تصد تيار اللاجئين الواسع من شمال العراق عن دخول تركيا وان تمنع انشاء كيان كردي مستقل هناك وان تضمن ان تكون المناطق الجبلية على طول الحدود نقية من كل وجود للارهاب. وحينما لم تنجح هذه السياسة في احراز كل أهدافها واستمرت العمليات الارهابية، قصد رئيس تركيا تورغوت أوزال الى جر حزب العمال الكردستاني الى تفاوض بتأثير الادارة الاقليمية الكردية التي أُسست في ذلك الوقت. واستقر رأيه على منح القائدين الكرديين مسعود البرزاني وجلال طالباني اللذين نجحا في احراز هدنة قصيرة الأمد من زعيم حزب العمال الكردستاني، عبد الله أوجلان، في سنة 1993، جوازات سفر دبلوماسية تركية. كانت استراتيجية اوزال هذه وهي استعمال الادارة الاقليمية الكردية يفترض ان تكون الخطوة الاولى من استراتيجية سائدة هي البحث عن حلول للمشكلة الكردية الداخلية بواسطة سياسة خارجية، وبواسطة العراق خاصة.

على أثر موت الرئيس اوزال الغامض عادت تركيا الى توجه عسكري متشدد ردا على المشكلة الكردية، وكان ذلك خاصة انكارا لوجود هوية عرقية مستقلة وازداد الصراع عمقا. وأفضت عمليات الوحدات الخاصة في عهد رئيسة الوزراء تانسو تشيلر الى آلاف الحوادث التي لا حل لها من القتل والاغتيالات. وكانت نتيجة الضغط الثقيل الذي استُعمل على سوريا ان كفت عن السماح لحزب العمال الكردستاني بالعمل من حدودها على تركيا، وبتنسيق مع الاستخبارات الاسرائيلية والامريكية اعتُقل زعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله اوجلان في كينيا في 1998 وأفضى ذلك بحزب العمال الكردستاني الى اعلان هدنة استمرت الى حرب الخليج الثانية.

في الاول من حزيران 2004 تحققت المخاوف من تجديد مرحلة العنف في العلاقات بين الاتراك والاكراد وأعلن حزب العمال الكردستاني نهاية ست سنوات الهدنة. لكن في الفترة بعد سنة 2007 مع تشكل سلطة حزب العدالة والتنمية في تركيا حصل هذا الحزب على فرصة أنسب للعمل في جد واعلان "انفتاح نحو الاكراد" اشتمل على منح الاكراد قدرا أكبر  من الحقوق الخاصة والجماعية وعلى تفاوض سري مع حزب العمال الكردستاني وحوار أوسع مع الادارة الاقليمية الكردية بفتح قنصلية في أربيل عاصمة الادارة الاقليمية الكردية. وفي نطاق سياسة "صفر المشكلات مع الجيران" وسياسة "الانفتاح نحو الاكراد" تابع حزب العدالة والتنمية تراث اوزال وهو محاولة انشاء تعاون سياسي واقتصادي مع الادارة الاقليمية الكردية لكنه فعل ذلك الآن بصورة أوثق (بمعنى التعاون السياسي) وعلى قدر أكبر (بمعنى الصلات الاقتصادية) قياسا بما تم في الماضي.

شؤون السياسة الداخلية

ان السياسة الجريئة التي تبناها حزب العدالة والتنمية بعد انتخابات 2007 – "الانفتاح نحو الاكراد" – لم يستمر زمنا طويلا. فقد انهار في واقع الامر مع حادثة هابر في سنة 2009 وهو ما كان يفترض ان يكون استسلاما رمزيا لعدد من نشطاء حزب العمال الكردستاني وطريقا لاعداد الجمهور التركي العام لعدد من التنازلات لحزب العمال الكردستاني وأصبح مظاهرة قوة سياسية لحزب العمال الكردستاني. وكانت هناك ضربة ثقيلة اخرى هي هجوم سلفان في تموز 2011 الذي قُتل فيه 13 جنديا تركيا في كمين في ديار بكر. في اثناء الحملة الانتخابية في سنة 2011 وعد حزب العدالة والتنمية بصوغ دستور أكثر ديمقراطية يفي بمطالب الاكراد ايضا. لكن في حين جاء الفوز المطلق لحزب العدالة والتنمية في انتخابات مجلس الشعب في 2011 بـ 50 في المائة من الاصوات تقريبا، باحتمال دستور جديد مُعدل، أصبحت هذه القضية خيبة أمل كبيرة. وبدأ حزب العدالة والتنمية يصرف انتباه الجمهور عن الدستور الجديد الى "مشروعات ضخمة" بملايين كثيرة من الدولارات مثل قناة اسطنبول، ومشروع فتح لتحسين التربية بوسائل تقنية والجسر الثالث فوق البوسفور. وكان أحد اسباب هذه السياسة التي هي صرف انتباه الجمهور الرغبة في كسب الوقت كي يزول عدم اليقين الذي سببه الربيع العربي. وهو نفس عدم اليقين الذي حث حزب العمال الكردستاني على الامتناع عن محادثات سلام مع الحكومة التركية وانتظار سوريا بعد عهد الاسد حيث ستكون فرص أكبر. ولهذا تبنى حزب العدالة والتنمية وحزب العمال الكردستاني ايضا توجه "ننتظر ونرى". وفي الاثناء وسع حزب العدالة والتنمية تعاونه مع الادارة الاقليمية الكردية باستضافة رئيس الادارة الاقليمية الكردية، مسعود البرزاني ورئيس الحكومة الاقليمية الكردية، نشروان برزاني في أنقرة في أيار 2012 وكانت زيارة وقع فيها على عقد لنقل النفط من المنطقة المستقلة ذاتيا الكردية الى مصافي تركيا (من غير موافقة الحكومة المركزية في العراق)، وتم التعبير عن مخاوف مشتركة من الارهاب.

برغم التفهم الذي أخذ يزداد في تركيا لكون حل مشكلة حزب العمال الكردستاني لن يوجد بوسائل عسكرية فقط، ما تزال هذه الوسائل تستعمل استعمالا ملحوظا. ومن هذه الجهة فان حقيقة ان الادارة الاقليمية الكردية تتعاون مع تركيا وتتشارك معها في معلومات استخبارية وتستعمل وسائل لمواجهة حزب العمال الكردستاني (اذا لم تحاربه مباشرة) تعتبر مجدية ومهمة. بل ان حقيقة ان الزعماء الاكراد عبروا عن ارادتهم الحديث علنا معترضين على حزب العمال الكردستاني تُرى في تركيا عظيمة التأثير. على سبيل المثال قال الرئيس العراقي جلال طالباني في سنة 2009 انه يوجد امكانان فقط عند حزب العمال الكردستاني فاما ان يضع سلاحه وإما ان يغادر العراق. ومضى زعماء الادارة الاقليمية الكردية على آثاره مع تصريحات مشابهة. وقال أحد الاشخاص القادة في حزب العمال الكردستاني ردا على ذلك: "يحاول الطالباني ان يرضي الجنرالات الاتراك، ولم نعد نؤمن بأن الطالباني يستطيع ان يؤدي دورا في حل المشكلة الكردية. ولا يستطيع أحد ان يُبعدنا عن جبال قنديل". وهكذا فان المحادثات مع حزب العمال الكردستاني لم تتقدم حتى الآن وحينما تعد الادارة الاقليمية الكردية بتعاون مع تركيا، علنا وفي تصريحات رسمية على الأقل، فان عند الجانب التركي باعثا على استمرار العلاقات الودية بالادارة الاقليمية الكردية.

تقديرات اقتصادية

في المجال الاقتصادي، كما كانت الحال ايضا في جملة الحسابات في المستوى الاقليمي، كانت تطورات الربيع العربي ضربة لخطط تركيا. فقد كانت تركيا تنوي توسيع التعاون الاقليمي والتعلق المتبادل بسياسة "صفر المشكلات مع الجيران" وان تحث بذلك تطورها الاقتصادي. وقد عبر رئيس حكومة تركيا رجب طيب اردوغان في زيارته لبيروت في تشرين الثاني 2010 عن الحاجة الى سياسة وحدة اقليمية تشبه "منطقة شنغان اوروبية" في الشرق الاوسط. وخطت تركيا خطوة اولى من اجل سياسة وحدة اقليمية كهذه بالغاء متبادل للحاجة الى رخصة دخول مع سوريا والاردن ولبنان وليبيا. وبعد بضعة اشهر في كانون الثاني 2011 كرر وزير الخارجية احمد داود اوغلو النية نفسها وهي انشاء جسم موحد اقليمي حقا قبل نشوب الربيع العربي الذي فاجأ تركيا كسائر الدول. كان الربيع العربي عند تركيا عهدا جديدا عانت فيه تركيا من خسائر اقتصادية كبيرة في بلدان كليبيا وسوريا عملت فيها شركات تركية قبل ذلك في نشاط تجاري متشعب. والى جانب توسيع الصلات بدول الخليج كان ما يدعو ايضا من وجهة نظر اقتصادية خالصة الى تطوير تعاون أقرب كثيرا مع الادارة الاقليمية الكردية.

في الفترة التي سبقت الربيع العربي وعلاوة على نشاط تركيا في أجزاء اخرى من العراق كانت نشيطة ايضا في مجال الطاقة في جنوب العراق بواسطة شركة النفط "تيركش بيتروليوم كوربوريشن"، وبواسطة شركات خاصة في فرع البناء، في مناطق شديدة الحساسية ايضا للشيعة مثل "مدينة الصدر". لكن مع تقدم الربيع العربي وجه رئيس حكومة العراق نوري المالكي في خطبته في نيسان 2012 انتقادا لسياسة تركيا مع الشيعة وتطرق اليها باعتبارها "دولة عدوا". وعلى ذلك يبدو ان المنطقة الأنسب في العراق التي سيوجه اليها نشاط تركيا الاقتصادي هي المنطقة ذات الحكم الذاتي الكردي الغنية بالنفط. ان علاقات تركيا الاقتصادية بالادارة الاقليمية الكردية بدأت قبل الربيع العربي بزمن طويل، لكن تعاونا أشمل مع الادارة الاقليمية الكردية أصبح غير ممتنع مع تنامي العداوة بين السنيين والشيعة نتيجة التحولات في سوريا والانسحاب الامريكي من العراق.

من اجل ان نفهم أهداف تركيا فهما أفضل، ينبغي ان نفحص عن الأهمية الاقتصادية للعراق في نظرها. فعلى حسب معطيات احصائية في 2011 كان العراق وجهة التصدير الثانية في مقدارها للسلع التركية والتقدير ان 50 في المائة على الأقل من هذه التجارة يتم مع شمال العراق. في النصف الاول من 2012 قياسا بتلك الفترة من 2011، تشير المعطيات الى زيادة 37 في المائة على تصدير تركيا للعراق وزيادة استيراد من العراق بنسبة 13 في المائة. وكذلك فان نسبة زيادة نصيب العراق من التصدير التركي العام 20 في المائة ونسبة زيادة نصيبه من جملة استيراد تركيا 58 في المائة. واذا أخذنا في الحساب عدم الاستقرار الاقليمي والازمة الاقتصادية العالمية يمكن ان ننسب اتجاه الزيادة غير العادي هذا الى التعاون الاقتصادي مع الادارة الاقليمية الكردية. في زيارة وزير التجارة والصناعة في الادارة الاقليمية الكردية، سنان جلبي، لتركيا في نهاية نيسان 2012 أشار الى انه في كل شهر تبدأ 25 شركة تركية جديدة العمل في منطقة الحكم الذاتي الكردي. وأكد ثبات الشركات التركية القوي في مجالات البناء والمصارف في المنطقة. وأشار مسعود ونشروان برزاني في زيارتهما لتركيا في أيار 2012 في تصريحاتهما الى تعاون يزداد في شؤون تتصل بالاقتصاد والارهاب. وفي مؤتمر طاقة في أربيل عقد في العشرين من ايار 2012 تم التوقيع على اتفاقات طاقة بين وزير الطاقة التركي تينر يلديز ووزير الموارد الطبيعية في الادارة الاقليمية الكردية آشتي هاورامي، يُنقل في اطارها الغاز والنفط من منطقة الحكم الذاتي الكردي مباشرة الى تركيا، وتستورد الادارة الاقليمية الكردية جزءا من النفط المكرر بعد ذلك. وتم توقيع هذه الاتفاقات من غير موافقة الحكومة المركزية العراقية. وقد أوضح هاورامي تفصيلات المشروع وأعلن انه مع الزيادة المخطط لها لخطوط الانابيب الجديدة فان الهدف هو نقل مليون برميل نفط الى المصافي والموانيء في تركيا – ويبلغ ذلك اربعة اضعاف مقدار التصدير الحالي. وتوجد الى الآن شكوك في مبلغ كون هذا المشروع حقيقيا لأن حزب العمال الكردستاني قد أظهر معارضته بالهجوم على خطوط الانابيب الموجودة بين كركوك ويومركليك في نهاية آب 2012. ومع ذلك فان الطاقة الكامنة كبيرة لأن الادارة الاقليمية الكردية محتاجة الى تركيا باعتبارها طريقا للتصدير، ولأن حاجات تركيا من الطاقة تزداد ولحقيقة ان تركيا معنية بأن تكون دولة مركزية في مسارات نقل الطاقة.

تقديرات اقليمية

لا يمكن ان نفسر التقارب من جديد بين حزب العدالة والتنمية والادارة الاقليمية الكردية والبرزاني باعتباره استراتيجية "أوزالية" فقط وهي انشاء حلول للمشكلة الكردية بوساطة لاعبات خارجيات لأنه أكثر من ذلك. فالادارة الاقليمية الكردية تُرى حليفة لتركيا في مواجهة عدة تهديدات اقليمية بطريقتين رئيستين. الاولى ان الادارة الاقليمية الكردية حليفة قد تستطيع ان تساعد على تعديل توازن القوى الداخلي في العراق لصالح تركيا والذي يقوم من غير الاكراد على لاعبين سنيين وتركمان ضعفاء جدا. وهذا الشيء مهم بصورة خاصة بازاء تأثير ايران المتزايد في العراق. والعراق كما يزعم شون كاين "ما زال ملعبا اقليميا بدل ان يكون لاعبا اقليميا". وفي حين ترى ايران عراق المستقبل دولة ضعيفة تكون فيها الهيمنة للأكثرية الشيعية، تريد تركيا ان ترى دولة موحدة أقوى (تكون بمعنى ما وزنا معادلا لايران) مع تعاون وثيق بين المجموعات الرئيسة في العراق (السنيين والشيعة والاكراد وضمان حقوق الأقلية التركمانية). وكذلك في حين تهتم تركيا بتطوير تصدير الطاقة من العراق (باعتبارها مستهلكة وطريقا للنقل ايضا)، تخشى ايران ان يصبح العراق منافسا لها في تصدير الطاقة. يبدو ان ايران راضية عن مجال تأثيرها في جنوب العراق، وتركيا راضية عن مجال تأثيرها في شمال العراق لكنهما تحاولان في واقع الامر ان تستعملا تأثيرهما في مناطق اخرى من العراق. من الأمثلة على نجاح ايران في التأثير السياسي في العراق حقيقة ان رئيس الوزراء المالكي أظهر مشايعة لنظام الاسد وأكد انه يؤمن بقدرة النظام على إحداث اصلاحات. وعند جارات العراق ايضا قلق من ان ايران حينما يسقط نظام الاسد في سوريا ستؤكد تأكيدا أكبر علاقاتها بالعراق من اجل ان تعوض عن خسارة الحليف السوري. والى ذلك فان الادارة الاقليمية الكردية هي حليفة تستطيع ان تساعد على تعديل توازن القوى الاقليمي لصالح حلف سني وجدت تركيا والادارة الاقليمية الكردية أنفسهما فيه غير راغبتين نتيجة تطورات الربيع العربي. وقد كان هذا الشيء حافزا الى تحسين العلاقات بين تركيا والعربية السعودية. وبرغم ما قلنا ينبغي ان ننتبه الى ان ما يعتبر واحدة من نقاط قوة تركيا بالنسبة للعراق في السنين الاخيرة كان على الخصوص قدرتها على السمو فوق الانشقاقات الطائفية.

وثانيا تُرى الادارة الاقليمية الكردية حليفة محتملة تستطيع ان تساعد على احتواء حزب الاتحاد الديمقراطي – الذي هو ذراع حزب العمال الكردستاني في سوريا – بعد عهد الاسد. وفي هذا السيناريو الذي قد بدأ في واقع الامر ستنشأ منطقة حكم ذاتي كردي في شمال سوريا وسيُعرض هذا تركيا لتهديدات تتصل بالقضية الكردية في ثلاث جبهات على الأقل – الجبهة الداخلية وشمال العراق وشمال سوريا. فاذا أضفنا الى ذلك احتمالات ظهور تهديد حزب العمال الكردستاني من جديد من الحدود الايرانية ايضا أمكن ان نفهم لماذا ستبذل تركيا كل ما تستطيع للحفاظ على علاقاتها بالادارة الاقليمية الكردية. وقد أثبت الرئيس البرزاني استعداده وقدرته على التوسط بين الاحزاب الكردية المختلفة، ويأمل الاتراك ان ينجح في اقناع الاكراد السوريين بالانضمام الى المجلس الوطني السوري.

وجهة النظر العالمية

ان البحث في علاقات تركيا بالادارة الاقليمية الكردية لا يمكن ان يكون مقطوعا عن البحث في علاقة تركيا بالولايات المتحدة. ففي حين عارضت تركيا حرب الخليج الثانية كانت تُعد حتى بدء الربيع العربي على الأقل واحدة من الدول الأكثر ربحا من هذا التطور وبخاصة بسبب الزيادة الكبيرة في علاقاتها التجارية بالعراق. وحينما كانت تركيا ما زالت تعارض قبول قوة الادارة الاقليمية الكردية كان ذلك مصدر توتر مع الولايات المتحدة لأن الادارة الاقليمية الكردية أثبتت أنها الحليف الأشد اخلاصا للولايات المتحدة في حرب الخليج الثانية. لكن في اللحظة التي غيرت فيها تركيا سياستها نحو الادارة الاقليمية الكردية أصبحت المصالح المشتركة بين تركيا والولايات المتحدة والادارة الاقليمية الكردية أكثر ظهورا. وحينما سحبت الولايات المتحدة قواتها من العراق في 2011 أصبح واضحا انه سينشأ فراغ ما في الحكم. ولما كانت الولايات المتحدة مشاركة في مخاوف تركيا من التأثير المتزايد لايران في العراق فان عند الامريكيين باعثا جديا على مساعدة الادارة الاقليمية الكردية والاتراك قدر المطلوب لتكونا معادلتين في الوزن للايرانيين. والولايات المتحدة معنية ان تحافظ حليفتاها تركيا والادارة الاقليمية الكردية على علاقات تعاون. ويمكن بهذا المعنى ان نتوقع ان تعمل قدر استطاعتها على مضاءلة التوترات بين الاثنتين اذا تجددت. على سبيل المثال قال سفير الولايات المتحدة في تركيا، فرانسيس ريتشياردونا في آب 2012 ان الادارة الامريكية غير راضية عن أداء الادارة الاقليمية الكردية في احتواء نشاط حزب العمال الكردستاني، وهذا تصريح يتساوق مع عدد من مخاوف تركيا. وفي الوقت الذي تريد فيه الولايات المتحدة وتركيا معا ان تبقى وحدة العراق لا مس بها فانهما تعلمان انه قد يكون الشقاق العميق بين بغداد وأربيل لا يمكن رأبه وتُلقيان بتبعة ذلك على المالكي.

اذا نجحت تركيا في منع سقوط العراق في مجال تأثير ايران فان ذلك سيبرهن مرة اخرى على دورها الحاسم باعتبارها حليفة الولايات المتحدة وعضو حلف شمال الاطلسي – وهو دور في حالات ما ثانوي لدور الولايات المتحدة بمعاني أهميته للحلف. ان ما يُرى دور تركيا المؤيد في العراق قد اعترف به الاتحاد الاوروبي في عدد من تقارير تقدمه فيما يتعلق بترشيح تركيا عضوا في الاتحاد الاوروبي. وبهذا المعنى فان السياسة التركية الناجحة بشأن العراق تُرى ذخرا بالنسبة لتركيا في علاقتها بالاتحاد الاوروبي.

ملاحظات الختام

توجد كما عُرض في المقالة بواعث مهمة كثيرة على التقارب بين تركيا والادارة الاقليمية الكردية. ومع ذلك توجد في الخلفية عدة توترات تهدد بافشال توثيق هذه العلاقات في المستقبل أولها ان تركيا ما يزال من الصعب عليها ان تقبل رؤيا كردستان العراقية المستقلة تماما التي هي بالنسبة للاكراد في شمال العراق سؤال "متى" أكثر من ان تكون سؤال "هل". وثانيا ستثار مطالب تركيا التاريخية للسيطرة على الموصل وكركوك بقوة أكبر اذا انتقض العراق، ولما كانت الادارة الاقليمية الكردية تسيطر على هذه المناطق بالفعل فسيبقى ذلك مصدر توتر. وثالثا زيادة عدد الهجمات الارهابية لحزب العمال الكردستاني على تركيا في الآونة الاخيرة مثل توقع تجدد تهديد حزب العمال الكردستاني من قبل سوريا وايران، وقد ينتهي ذلك الى اضطهاد للاكراد يزداد في تركيا – وهذا تطور قد يُغضب الاكراد في العراق. وفي الختام فان تركيا قد تعارض في وقت ما محاولات ايران والعربية السعودية (والمالكي ايضا) دفعها الى ان تلزم طرفا بصورة جازمة في الاختلافات الطائفية في العراق وفي الشرق الاوسط عامة. وعلى ذلك فان الاتراك قد يحثون الاكراد على تنازلات اخرى للحفاظ على سلامة العراق وسيعارض هؤلاء هذه المحاولات أو يغضبون منها.

كانت اسرائيل طوال سنين كثيرة ترى الاكراد حلفاء ممكنين في الشرق الاوسط باعتبار ذلك جزءا من سياستها الاقليمية. وفي الماضي ندد الاتراك بعلاقة اسرائيل بالاكراد وأثاروا عددا من الاتهامات تتعلق باسهامها في عدد من نجاحات حزب العمال الكردستاني. وبهذا المعنى فان لاسرائيل اهتماما باستمرار الاتجاه الحالي وهو تحسن العلاقات بين تركيا والادارة الاقليمية الكردية. وحتى لو لم يكن هذا التقارب نقطة توحيد لمصالح اسرائيل وتركيا فان هناك أهمية كبيرة لأن تكون تركيا وزنا يعادل التأثير الايراني في العراق.

*  *  *

هل يقترب "الجهاد العالمي" من حدود اسرائيل؟*

بقلم: يورام شفايتسر

في خلال سني عمل منظمة القاعدة الكثيرة جعلت اسرائيل واليهود مع الولايات المتحدة عدو الاسلام المركزي وجزءا مما أسمته "الحلف اليهودي الصليبي". ومع ذلك وبخلاف الخطابة السامة المسلحة التي وجهتها المنظمة وشركاؤها الى اسرائيل واليهود اللذين رأوهما كيانا واحدا لا ينفصل، كان النشاط الارهابي الذي نفذوه في أكثر سنوات نشاطهم على اسرائيل واليهود ضئيلا نسبيا.

وقد اختار اسامة بن لادن ان يُركز ويوجه استراتيجية عمل منظمته وشركائه في طريق الجهاد العالمي على الولايات المتحدة في الأساس التي كانت تُرى العامل الأقوى في هذا الحلف بغرض ابعاد الولايات المتحدة عن الشرق الاوسط، وقد آمن أنه بذلك تُزال رعاية الولايات المتحدة وتأييدها السياسي والعسكري والاقتصادي لحليفاتها في الشرق الاوسط. ورأى ان هذا يفضي الى نهاية نظم الحكم العربية المستبدة التي انحرفت عن طريق الاسلام والى نهاية اسرائيل ايضا التي هي مرعية الولايات المتحدة الرئيسة في الشرق الاوسط. ان سقف النشاط المنخفض على اسرائيل واليهود قياسا بجبهات اخرى لا يشهد بالضرورة على سلوك المنظمة الموجه عليهم ومخططاتها. ففي الواقع وفي موازاة نشاط القاعدة وشركائها المعزز الموجه على الولايات المتحدة وحليفاتها في الغرب في العقد الاخير، طرأت زيادة ايضا على محاولاتهم المس بأهداف اسرائيلية ويهودية. واشتمل ذلك النشاط على عدد لا يستهان به من التخطيطات ومحاولات الاضرار بأهداف اسرائيلية ويهودية في الخارج خصوصا نجح قليل منها فقط ولم ينفذ أكثرها في حين نبع أكثر اضرارهم المحدود بالاسرائيليين وباليهود في الخارج من نجاحات جملة الجهات الاستخبارية والامنية في أنحاء العالم في صد جهودهم، هذا مع محدودية قوة القاعدة وشركائها بسبب نقص في الموارد بازاء كثرة المهام وكثرة الأعداء.

وفي نطاق ذلك صدت جارتا اسرائيل مصر والاردن اللتان وقعتا على اتفاقي سلام مع اسرائيل مخططات القاعدة وشركائها في الجهاد العالمي لتنفيذ عمليات ارهابية موجهة على اسرائيل من حدودهما. فقد رأت السلطات في هاتين الدولتين القاعدة وشركاءها عدوا لدودا وخطيرا على نظاميهما تنبغي محاربته بلا هوادة. وقد عاملت ناس هذه المنظمات في شدة وبذلك وفرت حماية لأهداف اسرائيلية في الدولتين وفي مقابل ذلك صدت تخطيطها للهجوم على اسرائيل من الحدود المشتركة بينهما. وعلى نحو مشابه عمل أعداء اسرائيل ايضا: فقد منعت سوريا نشاط القاعدة في داخلها ووجهته الى العراق؛ ومنع لبنان وحزب الله نشطاء الجهاد العالمي العمل من حدود اسرائيل الشمالية؛ وضبطت حماس، وهي السيدة في قطاع غزة، بقدر كبير معظم نشاط منظمات الجهاد السلفية في القطاع ما عدا السماح باطلاق عرضي لراجمات صواريخ وقذائف قسام صاروخية على جنوب اسرائيل أو توجيه نشاطها الى شبه جزيرة سيناء. ان "حزام الحماية غير الطبيعي" هذا من قبل أعداء اسرائيل الذين حموها في حدودها قد نبع في الأساس من خشيتهم ردا عسكريا اسرائيليا شديدا عليهم ردا على النشاط الارهابي الموجه على اسرائيل والذي قد يتصاعد ليصبح معركة عسكرية شاملة لا يريدونها.

ان الزعزعة التي مرت على العالم العربي في السنتين الاخيرتين وعلى عدد من الدول المحاذية لاسرائيل قد أحدثت بالنسبة لاسرائيل محيطا سياسيا أمنيا مختلفا أقل استقرارا بل هو أخطر مما عرفته في العقود الثلاثة الأخيرة. ان هدف هذه المقالة حصر العناية في عرض صورة التهديد اللائح على حدود اسرائيل من قبل القاعدة وشركائها، والفحص عن انه هل تغير التهديد تغيرا جوهريا وكيف يجب على اسرائيل ان تستعد لمواجهته.

تهديد من الجنوب – القاعدة وشركاؤها في شبه جزيرة سيناء وفي قطاع غزة

كان اسقاط نظام مبارك في مصر هدفا استراتيجيا لمنظمة القاعدة وشوقا شخصيا عند كثيرين من كبار مسؤوليها سنين طويلة ممن أصلهم مصري وعلى رأسهم زعيم المنظمة الحالي الدكتور أيمن الظواهري. وقد مكّن الفراغ في الحكم الذي نشأ في مصر نتاج سقوط مبارك الى ان ثبت النظام الجديد برئاسة محمد مرسي، مكّن جهات الجهاد العالمي من استغلال الوضع الجديد للدفع قدما بأهدافها. ومكّن هرب ناسهم بل الافراج عنهم من السجون حيث قضوا فترات سجن طويلة بسبب نشاطهم في الماضي، مكّن هذه المنظمات من تعزيز صفوفها بناس مخلصين ذوي تجربة عملياتية. والى ذلك ساعد الفراغ في الحكم في أنحاء سيناء مؤيدي الجهاد العالمي على تثبيت أقدامهم وتنظيم أنفسهم هناك مع استغلال عدم السيطرة الفعالة للسلطة المصرية في المنطقة، لمحاولة تأسيس حكم ذاتي هناك ذي طبيعة اسلامية شرعية. في السنوات 2004 – 2006 نُفذت في سيناء عمليات موجهة على أهداف سياحية في طابا ورأس الشيطان، وفي ذهب وفي شرم الشيخ على أيدي موالين للجهاد العالمي لكن العمليات المضادة العنيفة من قبل الجهات الامنية المصرية في فترة نظام مبارك قمعت موجة الارهاب بضع سنين؛ لكن على أثر الأحداث التي أفضت الى اسقاط نظام مبارك، ظهرت في السنة الاخيرة عدة مجموعات تشايع القاعدة والجهاد العالمي زادت نشاطها في سيناء بغرض فرض سلطتها على المنطقة وتحدي السيادة المصرية.

1- "أنصار بيت المقدس"، وهم الذين تُماهي ايديولوجيتهم وخطابتهم بل أهداف العمليات التي يختارونها ما للقاعدة. فعلى سبيل المثال زعمت المنظمة بتحملها المسؤولية عن عدة هجمات على أنبوب نقل الغاز من مصر الى اسرائيل أنها تمت من اجل منع سلب الموارد الطبيعية التي أعطاها الله للمسلمين، والتي تُباع بأسعار زهيدة لأعداء الاسلام وفي مقدمتهم اسرائيل. ونذكر في هذا السياق انه ظهرت في الأفلام القصيرة التي كان فيها تحمل المنظمة للمسؤولية مقاطع امتدح فيها الظواهري الهجمات المكررة على انبوب الغاز بل دعا حكومة مصر الجديدة الى الغاء اتفاق السلام مع اسرائيل وتطبيق أحكام الاسلام في مصر. ووعدت المنظمة بالعودة الى تنفيذ عمليات كهذه في المستقبل ايضا. ووعدت المنظمة في تحملها المسؤولية عن اطلاق صواريخ غراد على ايلات في شهر آب 2012 بأن تصيب قلب مدن اسرائيل وتستمر في قتال أعداء الله قتالا لا هوادة فيه. بل ان المنظمة تحملت مسؤولية عن أفتك عمليتين نُفذتا على حدود مصر واسرائيل: في آب 2011 في الشارع 40 المؤدي الى ايلات حيث قتل ثمانية اسرائيليين، وفي الخامس من آب 2012 على حدود اسرائيل مع مصر حيث قتل 16 من حراس حرس الحدود المصري، في حين قضى نشاط جنود الجيش الاسرائيلي بمساعدة مروحية على الخلية ومنع قتلا ودمارا في اسرائيل. والى ذلك كانت هذه المنظمة مسؤولة كما يبدو ايضا عن عملية نُفذت في جبل حريف وقتل فيها جندي من الجيش الاسرائيلي في الواحد والعشرين من ايلول هذا العام.

2- "أنصار الجهاد" (يبدو انها تماثل "الجبهة السلفية في شبه جزيرة سيناء")، أعلنت انشاءها في العشرين من كانون الاول 2011 وأدت يمين الولاء للشيخ أيمن الظواهري زعيم المنظمة الجديد وهي تعِد بالاستمرار في نهج ابن لادن، الزعيم الذي اغتيل. وقد أعلن ناسها في الاعلان الأساسي أهداف نشاطهم وقالوا انهم "يُقسمون أمام الله ان يفعلوا كل ما يستطيعون لمحاربة السلطة الفاسدة لليهود والامريكيين وشركائهم". ووعدوا بتحقيق وعد اسامة بن لادن الذي قال: ان امريكا واولئك الذين يسكنون امريكا لن يتمتعوا أبدا بالأمن ما لم توجد فلسطين وقبل ان تخرج جيوش الكافرين من ارض محمد".

وإن كثيرين من نشطاء المنظمة هم سجناء مصريون سابقون كانوا ينتمون الى الجهاد الاسلامي المصري (جماعة أيمن الظواهري في مصر)، وانضموا بعد الافراج عنهم الى المنظمة الجديدة بنية الدفع قدما برؤياهم المشتركة بينهم وبين القاعدة ألا وهي انشاء خلافة اسلامية في مصر.

3- "التوحيد والجهاد" في سيناء، وهي المنظمة القديمة في سيناء التي تماهي هي ايضا تصور القاعدة العام. وقد انشأ المنظمة طبيب أسنان بدوي من قبيلة السواخرة، سكن في منطقة العريش في شمال سيناء وقتل في سنة 2006 في تبادل اطلاق نار مع قوات مصرية بسبب زعم المصريين ان المنظمة كانت مشاركة في الهجمات الارهابية على السياح في السنين 2004 – 2006. وأعلنت في تصريح نشرته مؤخرا ان "مصر وجبل سيناء دخلا في مرحلة جديدة سيكونان فيها – باذن الله – المركز في مواجهة أعداء الله: اليهود وشركائهم".

4- "مجلس شوى المجاهدين في القدس الكبرى"، وهي من المنظمات الفلسطينية الغزية الأشد نشاطا في سيناء في الفترة الاخيرة. وهذه المنظمة هي المنظمة السقف لعدد من المنظمات الفلسطينية السلفية أبرزها "التوحيد والجهاد" الفلسطينية وتعمل الى جانبها منظمة سلفية غزية أقل شهرة اسمها "أنصار السنة". ان مجلس شورى المجاهدين في القدس هو الذي تحمل المسؤولية عن العملية التي نفذت في منطقة بير ملكا في الثامن عشر من حزيران وقتل فيها سعيد فشافشة، وهو عامل اسرائيلي عربي كان يعمل في بناء الجدار الامني على الحدود مع مصر. وقد نفذت العملية خلية مخربين اجتازت الحدود من مصر وبثت ألغاما وكمنت لسيارات اسرائيلية تمر في الشارع، وفي الفيلم القصير الذي نشرته بعد العملية بشهر أهدت المنظمة الهجوم "هدية لاخوتنا في القاعدة وللشيخ الظواهري"، وردا على اغتيال ابن لادن. وقد عُرض في أكثر الفيلم القصير في الخلف علم القاعدة وواحد من المخربين الذين كانوا من أصول مصرية وسعودية وهو يتجه مباشرة الى الظواهري ويقول ان المنظمة مستمرة في الالتزام والايمان بـ "طريق الجهاد". وذُكر في الفيلم القصير ايضا ان المنظمة لا تعترف بالحدود الدولية بل بـ "حدود الله" فقط. وفي فيلم قصير نشرته المنظمة قبل ذلك أعلنت أنها تشارك القاعدة في هدف انشاء خلافة اسلامية. وتحملت هذه المنظمة ايضا مسؤولية عن اطلاق قذائف صاروخية من غزة على مدن الجنوب في الاسبوع الثاني من ايلول وكان ذلك كما قالت انتقاما لاغتيال طائرات سلاح الجو ستة نشطاء ردا على اطلاق نار سابق نفذه رجالها.

يوجد في غزة مع هذه المنظمات منظمات سلفية قديمة تعمل من هناك مباشرة على اسرائيل وتستعمل سيناء ايضا في نشاطها بغرض الالتفاف على القيود التي تفرضها اسرائيل عليها في عملها المضاد وللامتناع عن توريط حماس في رد اسرائيلي على غزة. ويحسن ان نذكر من هذه المنظمات خصوصا "جيش الاسلام" الذي انشأه في سنة 2006 ممتاز دغمش بعد ان انشق عن "لجان المقاومة الشعبية"، وهو نشيط جدا في اطلاق القذائف الصاروخية والهجمات على اسرائيل ومن ذلك مشاركته في اختطاف جلعاد شليط. وتجاوز نشاط المنظمة ايضا سيناء فأرسلت نشطاء منها للقتال في سوريا – وهذه حقيقة كُشفت على الملأ حينما قتل أحد رجالها في المعارك. وتبرز الى جانبها منظمة "لجان المقاومة الشعبية" التي يعمل ناسها عن جانبي الحدود ولهم علاقات قوية بجهات من الجهاد العالمي في سيناء. وارتبط اسم المنظمة مباشرة بعدة عمليات نفذت على حدود مصر كالعملية في 18 آب 2011 التي قتل فيها ثمانية اسرائيليين، والعملية التي قتل فيها رجال حرس الحدود المصري في آب هذا العام. ويمكن ان نجد شهادة على هذا النشاط في طلب المصريين أنفسهم الى حماس ان تُسلمهم مسؤولين كبارا من المنظمة بشبهة مشاركتهم في قتل جنودهم.

تهديد من الشمال – القاعدة وشركاؤها في سوريا ولبنان

في خلال المعركة التي حدثت في العراق على أثر هجوم الولايات المتحدة وشريكاتها، اختار الرئيس السوري بشار الاسد مساعدة منظمة القاعدة وشركائها على الوصول الى العراق لقتال قوات التحالف. واستُخدمت سوريا ميدانا رئيسا تم فيه استيعاب وارشاد وتدريب مئات كثيرة من المتطوعين الذين اعتُبروا في معسكر الجهاد العالمي. فانتقلوا الى العراق للانضمام الى الجهاد الذي أعلنته القاعدة على القوات الاجنبية وشركائها المحليين. وبرغم ان نظام حكم بشار الاسد حمل جميع علامات نظام كافر كما عرّفتها القاعدة – يجب ان يُقاتَل قتالا لا هوادة فيه لاحلال نظام اسلامي شرعي محله – تعاونت معه المنظمة بل تمتعت بمساعدته وتأييده. وبهذا أجلت القاعدة المواجهة الحتمية مع النظام العلوي السوري الى أن يحين وقت مناسب. لكن مع تصاعد المواجهات العنيفة في سوريا بين النظام السوري وجماعات المتمردين، تغيرت سياسة القاعدة فيما يتعلق بمستقبل سوريا. ان الظواهري، الذي لم يُخف قط تصوره الأساسي لدور سوريا المركزي في حلمه الذي هو انشاء الخلافة الاسلامية في المنطقة عبر عن هذا الموقف في عدة فرص في الماضي: ففي رسالة أرسلها في سنة 2006 الى أبو مصعب الزرقاوي الذي كان يقاتل في العراق شبه الظواهري المعركة لجعل الاسلام يحكم المنطقة العربية بعصفور جناحاه مصر وسوريا وقبله فلسطين؛ وفي شريط فيديو مسجل نشره في تموز 2011 تحدث الظواهري – لأول مرة باعتباره زعيم القاعدة – معارضا النظام السوري ودعا المتمردين الى قتال الاسد لأنه تعاون مع الامريكيين، وعمل حارسا لحدود اسرائيل و"باع" اراضي الجولان. وقضى الظواهري بأن النضال لاسقاط الاسد جزء من معركة اقليمية أوسع مع الولايات المتحدة واسرائيل؛ وفي شريط مسجل آخر نشره على أثر تصعيد المعركة في سوريا تحت عنوان "الى الأمام يا أُسود الشام"، أعلن الظواهري ان سوريا ميدان جهاد مركزي، ودعا المسلمين من أنحاء العالم الى المجيء اليها لمساعدة المجاهدين المحليين في المعركة لتنحية "القاتل إبن القاتل" الذي ذبح المسلمين – الى ان يسقط النظام، ودعا الى انشاء دولة تدافع عن سائر الدول المسلمة وتطمح الى تحرير الجولان وتتابع الجهاد الى ان ترتفع راية النصر فوق تلال القدس المحتلة؛ وفي النهاية وفي الذكرى السنوية الحادية عشرة للهجوم الارهابي على الولايات المتحدة، نشر الظواهري شريطا آخر عاد وصرح فيه عن تأييد منظمته للجهاد في سوريا، ومحاولة انشاء دولة مسلمة باعتباره مسارا أساسيا في الطريق الى القدس. وعلى حسب ما قال في الشريط، تمنح الولايات المتحدة نظام البعث العلماني فرصا اخرى مكررة خشية ان تصبح الحكومة التي ستنشأ في سوريا تهديدا لاسرائيل.

في استجابة لدعوة الظواهري في شباط 2012 وصل الى سوريا نشطاء يعتبرون في رجال "القاعدة في العراق" يعملون تحت اسم "جبهة النُصرة"، ويعتبرون اليوم أقوى منظمة في المعركة. ويقوم هؤلاء النشطاء بأعمال منظمة تعتمد على القدرة والتجربة العسكريتين اللتين جمعوهما في اثناء سنوات القتال في العراق ويبدو أنهم هم المسؤولون عن معظم الهجمات الجريئة القاتلة بصورة مميزة التي نُفذت في سوريا في الاشهر الاخيرة وفي مقدمتها العمليات الانتحارية. ويوجد الى جانبها نشاط متفرق أقل تنظيما لعناصر من الجهاد العالمي من اليمن والعربية السعودية وليبيا والاردن وغزة جاءوا الى سوريا بصورة مستقلة من غير الانتماء الى مجموعة ما، وانضموا الى نشاط جيش سوريا الحر. ويراوح عدد المقاتلين الذين يعتبرون من نشطاء الجهاد العالمي بحسب تقديرات مختلفة بين بضع مئات وبضعة آلاف. ويثير وجود نشطاء الجهاد العالمي في سوريا بين كثيرين في سوريا ومنهم المقاتلون من المعارضة السورية، الخوف من وقف الدعم الغربي وفقدان نضالهم شرعيته. وسيثبت المستقبل هل يفضي القتال المشترك الى تعاون بين الجهات المقاتلة في المستقبل أم يكون توتر وصراع بين الأطراف اذا سقط نظام الحكم.

في لبنان ايضا وجود لنشطاء الجهاد العالمي لكن نشاطهم الموجه على اسرائيل كان محدودا في السنوات الاخيرة وانحصر في الأساس في اطلاق عرضي لصواريخ على حدودها الشمالية. ومع ذلك أفضت الأحداث في سوريا في الاشهر الاخيرة الى انفجارات عنف بين عناصر سلفية جهادية والشيعة. وقد عبر عن التوتر بين الطرفين حوادث اطلاق نار واختطاف متبادل. ويبدو أن تأييد حزب الله وايران السافر لقمع المعارضة السورية يؤجج العداوة المكبوتة بين عناصر الجهاد العالمي وحزب الله الشيعي الذي يُنظر اليه في لبنان على أنه أقوى مركز قوة. وكان التهديد الذي صدر مؤخرا عن قائد "كتائب عبد الله عزام في سوريا"، بالمس بلبنان اذا استمر حزب الله في نشاطه في سوريا، أبرز تعبير عن التوجه الذي قد ينشأ في لبنان بين المعسكرين اذا استمر القتال في سوريا واذا سقط نظام الاسد في الأساس. وفي خلال ذلك قد توجه الجماعات السلفية الجهادية في لبنان بعض نشاطها الى تسخين الحدود مع اسرائيل تحديا لاسرائيل وتحديا ايضا لهيمنة حزب الله على الحياة السياسية والعسكرية في لبنان.

تهديد محتمل من الشرق – عناصر سلفية في الاردن

اضطر النظام الهاشمي في الاردن الى ان يواجه في السنين الاخيرة تأثيرات المعركة الجارية في العراق منذ أُزيل صدام حسين عن الحكم، والى ان يواجه في السنة ونصف السنة الاخيرين ايضا الأمواج الارتدادية النابعة من الزعزعة في الدول العربية. برغم عمليات معدودة نفذت في داخل الاردن على أهداف اسرائيلية كان الاردن – منذ كان التوقيع على اتفاق السلام بينه وبين اسرائيل – جهة مهمة مركزية في افشال النشاط الارهابي من قبل القاعدة وشركائها وعلى رأسهم الزرقاوي، الموجه على أهداف اسرائيلية في داخله، ومن حدوده نحو اسرائيل. ويضطر الاردن اليوم الى مواجهة مظاهر عدم الهدوء الداخلي الذي يسود المملكة وتعبر عنه مظاهرات احتجاج تُرفع فيها أعلام القاعدة وتوزع منشورات تفصل مطالب السلفية – الجهادية من النظام، وتُسمع دعوات الى انشاء خلافة اسلامية وتطبيق الشريعة قانونا للدولة، الى جانب تصريحات تأييد لأبو محمد المقدسي (وهو من كبار ايديولوجيي الجهاد العالمي وهو الأب الروحي للزرقاوي). وتم قمع هذه الظواهر في الماضي قمعا شديدا وبسرعة على يد النظام، وسُجن فورا من تجرأ على إسماعها علنا.

واليوم، بسبب تأثيرات أحداث الربيع العربي، وازدياد قوة جهات المعارضة والجرأة التي تميز نشاط الاحزاب الاسلامية، يحذر الملك من اتخاذ خطوات قمع متسرعة ويضطر الى تنفيذ تغييرات سياسية في حكومته والامتناع عن خطوات اقتصادية شديدة كي لا يُهيج النفوس أكثر. وقد نجح الملك عبد الله الى الآن في الاحتيال على جهات المعارضة ومنع تدهور الوضع الامني الداخلي لكن من الممكن اذا سقط النظام السوري ان يضطر الى مواجهة نتائج هذا الامر في داخل حدود المملكة ومنه نشاط عنيف من قبل جهات معارضة سلفية جهادية قد تحاول توجيه نشاطها على اسرائيل ايضا. يمكن ان نُقدر ان تستمر اجهزة الامن في الاردن في هذه المرحلة في كونها حاجزا لمحاولات المس باسرائيل لكن تحديها قد يصبح أقسى مما واجهته بنجاح حتى الآن.

الخلاصة

يبدو ان زيادة نشاط جهات الجهاد العالمي ومنظمات الارهاب السلفية – الجهادية في داخل الدول المحاذية لاسرائيل، وفي منطقة سيناء في مصر، وفي سوريا، وربما في لبنان والاردن في المستقبل ايضا، تُعرض اسرائيل لتهديد حقيقي هو زيادة قوة الارهاب على الحدود المشتركة بينها. ومن المهم ان نؤكد أن هذا التهديد ليس خطرا وجوديا على اسرائيل لكن يتوقع ان يصبح تحديا سياسيا وأمنيا مركبا لقادة الدولة. ولا ينبع هذا التحدي من قدرة عسكرية – ارهابية غير عادية للأعداء، لكن بسبب كثرة الجبهات وبسبب شكل نشاط عناصر الجهاد العالمي التظاهري القاسي، وهم الذين يتجاهلون اعتبارات ضابطة تميز على نحو عام منظمات تأوي الى كنف دول مؤيدة وتخضع لقيودها. إن عدم الضوابط هذا يحمل امكانية احتكاك وتصعيد في العلاقات بين اسرائيل وجاراتها في حين ان هدف نشاط المنظمات، علاوة على المس باسرائيل، هو جعل العلاقات تتدهور وتصعيدها الى حد مواجهة مسلحة بين الطرفين. وبسبب ذلك يجب على اسرائيل ان تستعد لنشاط ارهابي قد يشتمل على هجمات خلايا تنوي ان تنفذ قتلا جماعيا بوسائل مختلفة ومنها: أ – اطلاق صواريخ لاسقاط طائرات مدنية (من سيناء خاصة)؛ ب – محاولات اصابة بالصواريخ لفنادق في ايلات أو في الشمال؛ ج – محاولات دخول الى بلدات مدنية من اجل تنفيذ قتل جماعي لسكانها.

لا حاجة في هذه المرحلة الى استعداد خاص في المنطقة الشرقية. ومع ذلك فان الوضع غير المستقر في المملكة الهاشمية يقتضي استعدادا لتغير استقرارها – اذا حدث في المستقبل – وتعزيز متابعة ما يجري وتوثيق التعاون الامني الحالي. وليس الامر كذلك في الجبهتين الجنوبية والشمالية: تجري في هذه المرحلة في الحقيقة في مصر جهود من قبل الرئيس مرسي وقوات الامن المصرية لكف نشاط عناصر الجهاد العالمي في سيناء وقد تم التعبير عن ذلك في عملية "سيناء" (التي أسمتها وسائل الاعلام عملية "نسر")، وكانت ردا على عملية في آب الأخير قُتل فيها 16 من رجال حرس الحدود المصريين وشملت نقل جنود ودبابات ومروحيات ومحاولة الحديث مع ممثلي البدو ومنظمات سلفية، لكن برغم تلك الجهود لمحاولة صد موجة الارهاب في سيناء، يشير الهجوم الذي نفذه بدو محليون في 14 أيلول على قاعدة القوة المتعددة الجنسيات التي تبعد 15 كم عن الحدود مع اسرائيل، والعملية في جبل حريف التي نُفذت في 21 ايلول على حدود مصر وقُتل فيها جندي من الجيش الاسرائيلي، الى ضعف سيطرتهم والى الصعوبات التي تواجههم في فرض السيادة المصرية هناك. ويبدو ان علاجا جذريا لمشكلة الارهاب في سيناء يقتضي انفاق موارد مالية كبيرة على السكان وعلى البنية التحتية للسكان البدو الذين أُهملوا سنين كثيرة. وفي المقابل يُحتاج الى بناء قاعدة استخبارية فعالة واستعمال نشاط عملياتي طويل متتابع من قوات خاصة مدربة كي تكف زخم منظمات الجهاد العالمي العاملة في سيناء. وعلى كل حال يبدو ان اسرائيل ستضطر الى ان يتم تنفيذ هذا النشاط، الى مواجهة محاولات عمليات اخرى بل عمليات تصعيدية برغم النشاط المصري الذي وصف آنفا.

وعلى ذلك يجب ان تكون سياسة اسرائيل لكف عمليات العناصر الارهابية في سيناء وغزة حازمة صارمة تُبين لحماس وللمصريين ايضا ان اسرائيل لن تتحمل استمرار نشاط ارهابي من سيناء وسترد مباشرة على المخططين له في كل مكان تعلم وجودهم واستعدادهم فيه لتنفيذ عمليات قبل ان تُنفذ بالفعل. ومن الضروري ان تُبين اسرائيل لحماس أنها فضلا عن مسؤوليتها عن منع الارهاب من قبل قطاع غزة، تراها ايضا عنوانا مسؤولا عن جملة النشاط الارهابي الذي تنفذه منظمات من القطاع موجها على اسرائيل حتى لو كان يُنفذ من سيناء، وأن هذه الاعمال سيُرد عليها في قطاع غزة. وفي المقابل يجب على اسرائيل ان تتعاون مع مصر وان تشجعها على العمل في نجاعة وتصميم في مواجهة منظمات الارهاب السلفية المصرية والغزية التي تعمل من سيناء. ومن الجيد كذلك الاشارة الى المصلحة المشتركة بين مصر واسرائيل في مقابل حماس وجوهرها حفظ السيادة المصرية ومنع تصعيد في الجنوب يتوقع ان يحدث اذا استمر الارهاب المباشر والارهاب غير المباشر من قطاع غزة عن طريق سيناء.

وفي الجبهة الشمالية ما يزال يوجد عدم وضوح لشكل نهاية المواجهة العنيفة في سوريا – فهل سيبقى النظام الحالي، وماذا ستكون هوية الجهة الحاكمة التالية، وماذا سيكون مبلغ سيطرتها على الدولة. ومن غير المعلوم كذلك تأثير الأحداث في سوريا في جارتها لبنان وصورة صراعات القوة في لبنان نتاج ذلك، بين مركز القوة المركزي الشيعي وبين العناصر السلفية الجهادية، والذي أصبحت علامات صراعها تبرز فوق السطح. ومع ذلك يبدو انه برغم الغموض أن الخطر الذي تتعرض له اسرائيل لنشاط عناصر الجهاد العالمي – الموجودة اليوم في سوريا وتنحصر عنايتها في النضال لاسقاط حكم الاسد – قد أصبح موجودا الآن في وقت يحاول بعضهم فيه انتهاز الفرص لغياب جهات أمنية سورية فعالة، تكف نشاطها الموجه على بلدات اسرائيلية. وقد يزداد هذا الوضع سوءا كثيرا اذا سقط النظام السوري أو اذا نشأ في سوريا فراغ طويل في الحكم. وفي هذه الحال كما قلنا من قبل قد تحاول عناصر الجهاد العالمي تحقيق حلم الظواهري وان تعمل على الدوام على اسرائيل من حدودها الشمالية من غير ان يشوش عليها "الخائن الذي باع الجولان". وقد يحدث شيء مشابه في لبنان ولا سيما اذا سقط نظام الاسد. وفي هذه الحال قد تنشأ صراعات في داخل لبنان بين عناصر الجهاد العالمي وحزب الله الذي سيخسر حليفا مركزيا؛ وقد يختفي ضبط النفس الذي فرضه حزب الله على نشاط ليس له أو تحت سلطته ورقابته على اسرائيل وقد تعمل عناصر الجهاد العالمي على اسرائيل بتكثيف أكثر مما كان في الماضي. ويرمي هذا النشاط الى المس باسرائيل لتوريط لبنان وحزب الله وجرهما الى مواجهة عسكرية مع اسرائيل. وفي المقابل يجب على اسرائيل ان تستعد استعدادا دفاعيا بحسب الخطر الذي أخذ ينشأ الآن على الحدود السورية وربما في لبنان ايضا. ويجب وجود رد في سوريا من اجل اصابة مركزة لعناصر الجهاد العالمي وأن يُطلب الى النظام السوري ان يحقق سيادته ما بقيت موجودة، أما في لبنان فان حكومة لبنان على اختلاف مركباتها هي عنوان الرد. يبدو في هذه الايام ان ما كان يُرى في الماضي سيناريو مظلما ضئيل الاحتمال تكون فيه القاعدة والجهاد العالمي تهديدا مباشرا لاسرائيل من حدودها قد أخذ يتكون أمام أعيننا ليصبح واقعا. والسؤال هل سيكون هذا المسار مصحوبا بدعوة رسمية معلنة من زعيم القاعدة الظواهري الى مؤيديه – ليأتوا وليحاربوا اسرائيل وماذا سيكون تأثير هذا الاجراء من قبله في مقدار الخطر على اسرائيل. يكمن جواب ذلك بقدر كبير في تصميم جارات اسرائيل على منعهم من العمل عليها وفي قدرة اسرائيل بالطبع على كف نشاطهم من غير ان تدهور العلاقات بجاراتها الى مواجهة عسكرية أو قطيعة سياسية.

*  *  *

بعد العملية: ميزان الطرفين*

بقلم: أفرايم كام

          مع انتهاء عملية "عمود السحاب" ادعى الطرفان الانتصار فأعلنت حكومة اسرائيل أن أهداف العملية كلها قد تم انجازها، أما قيادة حماس فأعلنت ان كل مطالبها استُجيبت. وأن اسرائيل بعقب اطلاق القذائف الصاروخية ستفكر ألف مرة قبل ان تهاجم القطاع. من الواضح ان واحدا من الطرفين على الأقل - ويبدو أنهما معا – يعرض صورة جزئية. كان في الجانب الاسرائيلي كثيرون زعموا ان انجازات اسرائيل جزئية فقط، وأنها ستضطر عاجلا أو آجلا الى العمل مرة اخرى في القطاع. واحتاجت حماس الى أكاذيب لتؤيد روايتها أنها انتصرت في المواجهة العسكرية. تريد هذه المقالة ان تحلل ميزان الطرفين مع انتهاء عملية "عمود السحاب". ونؤكد انه بقيت في هذه المرحلة علامات سؤال كثيرة عن نتائج العملية ومنها ما يتعلق بتفصيلات تسوية المستقبل بين اسرائيل وحماس اذا أُنجزت أصلا ولذلك ينبغي ان نرى هذا التحليل تلخيصا مرحليا وقد يبدو ميزان الانجازات والاخفاقات بين الطرفين مختلفا بعد زمان – كما حدث لتصور نتائج حرب لبنان الثانية.

       الصعيد العسكري

          من الناحية العسكرية خرجت اسرائيل من المواجهة العسكرية في قطاع غزة ويدها هي العليا. وكان لذلك عدة جوانب. ففي اثناء العملية أوقعت اسرائيل ضربة شديدة بالنظام الصاروخي لحماس والمنظمات الاخرى في القطاع وبالبنية التحتية ومواقع اطلاق الصواريخ والمستودعات ولا سيما نظام فجر 5 – وإن كان جزء صغير من نظام الصواريخ البعيدة المدى قد بقي واستمر يشغل اسرائيل الى ان كان وقف اطلاق النار. وقد أنفقت حماس والمنظمات الاخرى في القطاع على هذا النظام مبالغ مالية كبيرة وسني عمل. وفي خلال ذلك ايضا أُصيب نظام القادة والمحاربين من المنظمات. وأثبت الجيش الاسرائيلي بهذا النشاط انه يملك قدرة على دخول استخباري عميق ونوعي ساعده ايضا على ان يُجنب السكان المدنيين اصابات بلا داعٍ. ويجب ان نقول في الحاصل ان ادارة العملية تمت بحذر وبلا أخطاء وتقصيرات كبيرة.

          كان عنصر لا يقل عن ذلك أهمية في اثناء القتال وهو استعمال منظومة القبة الحديدية لأول مرة مع نسبة نجاح بلغت 84 في المائة. ومعناها الرئيس هو نجاحها في ان تُضائل كثيرا عدد المصابين والضرر بعقب اطلاق القذائف الصاروخية، مع استعمال وسائل حماية ومظاهر الانضباط والصمود الصلب للسكان في اسرائيل. ومع ذلك يوجد لذلك أهمية كبيرة بالنسبة للجانب الفلسطيني ايضا. ان السلاح المائل المسار وفي مقدمته الصواريخ من عائلة فجر وسيلة القتال الرئيسة لحماس في مواجهة اسرائيل. وسيظل نظام الصواريخ سلاحا مهما في يد حماس حتى لو تم اعتراض الصواريخ بدرجة عالية فهو قد يستمر في التشويش على الحياة المنتظمة في المناطق التي ستخضع لاصابتها، وقد تسبب خسائر في الأرواح والممتلكات واعتراضها مقرون بكلفة عالية نسبيا. لكن يتوقع ان تدرك حماس أنه مع ظهور منظومة القبة الحديدية فانها تفقد بقدر كبير وسيلة اصابتها الرئيسة لاسرائيل التي تملكها، هذا الى أنه من المنطقي ان نفترض ان تُحسن المنظومة أداءها وتوسع انتشارها. وقد تدرك حماس من جهتها ان تكون احتمالات محاولتها مواجهة القبة الحديدية متعلقة بقدرتها على بناء مخزون كبير من القذائف الصاروخية يُمكّنها من اطلاق عدد كبير منها لكل مدى ونجاحها في ان تجد سبُلا للحفاظ على الصواريخ بعيدة المدى.

          تنسب حماس الى نفسها علاوة على التشويش على الحياة في جنوب اسرائيل اطلاق الصواريخ على تل ابيب ايضا. وقد تكون من جهة الصراع على الوعي جمعت بذلك نقاطا عند الجمهور الفلسطيني. والنقاط قليلة في واقع الامر إن وجدت أصلا. أثبتت تلك الاطلاقات عجز حماس خصوصا فالصواريخ التي تم اطلاقها كانت معدودة واعترضتها "القبة الحديدية" كلها ولم تسبب اضرارا بالأرواح والممتلكات واضطرت حماس الى الكف عن اطلاقها قبل انتهاء القتال ربما بسبب النقص منها. ومن الجهة الاخرى تستطيع حماس ان تدعي حقيقة ان اسرائيل أحجمت آخر الامر عن تنفيذ عمل بري في القطاع برغم أنها هددت بفعل ذلك واستعدت له. وبذلك فقد التهديد الاسرائيلي بالخروج في هجوم بري شيئا من صدقه في حين نبع احجام اسرائيل عن ذلك الاجراء لا خشية من البقاء الطويل في القطاع والصدى الدولي الذي سينشأ بعقب قتل مدنيين فقط بل من خشية ان يضر الاجراء ضررا شديدا بعلاقتها بمصر.

       الصعيد السياسي

          اذا كانت كفة اسرائيل هي الراجحة بصورة واضحة في هذه المرحلة في الصعيد العسكري فان الصورة أكثر تعقيدا في الصعيد السياسي. فالى جانب حق اسرائيل ينبغي ان نذكر حقيقة ان العملية حظيت بتأييد واسع على طولها من قبل حكومات الغرب وسبب ذلك عدة اسباب: فحماس والمنظمات الاخرى في القطاع ما تزال كثيرات من حكومات الغرب تراها منظمات ارهاب لاسرائيل الحق في حماية نفسها منها؛ وقبلت أكثر حكومات الغرب الزعم الاسرائيلي ان المنظمات الفلسطينية هي التي تحرشت باسرائيل ولهذا كان ردها مشروعا؛ وكانت اصابة السكان المدنيين في غزة في الحد الأدنى وكانت مدة العملية قصيرة نسبيا. وفي هذا الاطار كان التفاهم مع الادارة الامريكية جيدا نسبيا، وأصلح شيئا ما انطباع وجود اختلافات في الرأي معها نشأت في السنة الأخيرة ولا سيما في القضية الايرانية. وهذا التأييد قد يُمكّن اسرائيل من الخروج في عملية عسكرية اخرى اذا كانت تُرى عادلة وموزونة.

          ينبغي ان نضيف الى ذلك دور مصر في خلال العملية وبعدها. فللنظام الحالي بخلاف ما كان في فترة نظام مبارك الذي رأى حماس تهديدا وذراعا ايرانية صلة ايديولوجية بحماس وهو يعبر عن ذلك تعبيرا عمليا وكلاميا. ومن هذه الناحية يعمل التغيير في القيادة المصرية في مصلحة حماس وقد يكون استعدادها لاجتياز "خطوط حمراء" في مقابل اسرائيل قبل العملية قد تأثر ايضا بتولي الاخوان المسلمين للحكم في مصر. إن خوف اسرائيل الزائد من المس بعلاقات السلام بمصر يقيد حرية عملها في القطاع تقييدا كبيرا ومن ذلك القيام بعمل بري فيه. ومع ذلك توجد من وجهة نظر النظام المصري الجديد ايضا جوانب سلبية في سلوك حماس قد تضر بمصالحه وسيطرته على شبه جزيرة سيناء، وهو قلق من تهريب السلاح من سيناء الى القطاع. هذا الى ان رئيس مصر محمد مرسي قد رأى المواجهة العسكرية بين اسرائيل وحماس فرصة لأداء دور رائد في تسوية الازمة وتنظيمها. وإن اهتمام مرسي بأن يكون عامل وساطة رئيسا بين الطرفين وان يحافظ على مصالح بلاده بازاء حماس ايضا أوجب عليه ألا يلتزم بموقف أحادي واضح لمصلحة حماس وأن يأخذ في حسابه ايضا مطالب اسرائيل وحاجاتها، وان يكون له اتصال قريب ايضا بالادارة الامريكية وان يحاول العثور على الطريق الذهبي بين الأطراف. وهذه التقديرات منعت مسا بعلاقات اسرائيل بمصر عقب العملية حينما اكتفى النظام المصري بدعوة سفيره في اسرائيل الى التشاور وبارسال رئيس الوزراء المصري في زيارة قصيرة للقطاع، وامتنع عن تصعيد رده. وساعدت ايضا على تحادث مباشر بين اسرائيل ومصر – وإن لم يكن ذلك مع مرسي نفسه – لتسوية الازمة والترتيبات بعدها. ومن هذه الجهة فان ظهور النظام المصري الجديد بمظهر الوسيط الرئيس في الازمة وبعدها اجراء ايجابي مهم من وجهة نظر اسرائيل.

          لما كانت عملية "عمود السحاب" لم تسعَ الى حسم عسكري، كان واضحا انه لا يمكن التوصل الى تسوية من غير محادثة حماس ولو بصورة غير مباشرة وبذلك أصبحت عاملا مركزيا في الاتصالات لتسوية الازمة وترتيبها. وهكذا احتاجت الجهات ذات الصلة الى محادثتها مباشرة أو غير مباشرة ومنحها هذا التحادث نقاط استحقاق باعتبارها جهة تجب محادثتها ويمكن محادثتها، وحسّن ذلك منزلتها الدولية. ولتحسين منزلة حماس الدولية نتيجة اخرى لم يُردها أحد سوى الجهات المتطرفة وهي ان ازديادها قوة قد جاء على حساب اضعاف منزلة السلطة الفلسطينية وأبو مازن شخصيا على نحو مؤقت على الأقل. ويجوز ان نفترض ان تحتاج اسرائيل الى مواجهة ضغوط حكومات في الغرب للمساعدة على اعادة بناء منزلة السلطة الفلسطينية.

          بيد انه كان لهذا الانجاز جانب آخر ايضا. فقد حظيت حماس بالتشجيع والتعبير عن المشايعة في الشارع الاسلامي والعربي والفلسطيني بسبب نضالها وثباتها أمام اسرائيل، لكن في اثناء المواجهة العسكرية لم تهب أية جهة لمساعدتها بالفعل – حتى ولا حليفاتها. فلم تكن ايران أصلا قادرة على فعل الكثير، وفضل حزب الله الحفاظ على الهدوء في جبهته واكتفى الشارع في السلطة الفلسطينية باظهار التأييد لكنه امتنع عن تأجيج الغرائز.

          وحظيت حماس بانجاز مهم آخر. فقد وافقت اسرائيل نتاج الوساطة المصرية لاحراز وقف اطلاق نار على التفضل على حماس واجراء تباحث آخر في تسوية في المستقبل تُلبى في اطارها مطالب مركزية لحماس من اسرائيل. وقد وافقت اسرائيل في اثناء ذلك حتى قبل احراز اتفاق على ان تُمكّن فورا من تسهيلات ما في الحصار لغزة. وفي مباحثات في تسوية في المستقبل مع اسرائيل يُطرح امكان التزامات اسرائيلية كبيرة لحماس ومنها: فتح المعابر واسقاط الحصار عن غزة أو تخفيفه والامتناع عن اغتيالات مُركزة وخطوات عسكرية اخرى في القطاع – مقابل امتناع حماس عن اطلاق النار والقيام بعمليات من داخل القطاع. وكل ذلك يُمكّن حماس من ان تقول للجمهور الفلسطيني في القطاع انها انتصرت في المواجهة العسكرية مع اسرائيل وان هذا الانتصار أدى الى انجازات على الارض.

          مع ذلك يوجد جانب آخر لهذه الانجازات ايضا. سارعت حماس الى اعلان أنها ستعود الى إعادة بناء وتطوير قدراتها العسكرية ولا سيما في مجال الصواريخ وانها ستظل في هذا الشأن تعتمد على المساعدة العسكرية والمالية التي وعدت بها ايران. من الواضح ان اعادة بناء نظام الصواريخ والذي سيتم بيقين بتهريب وسائل القتال الى القطاع سيمنع امكانا حقيقيا لتخفيف اسرائيل للحصار فضلا عن اسقاطه. والى ذلك لم تشأ حماس قط ان تكون متعلقة بايران وبالمساعدة التي تلقتها منها فضلا عن أن تريد ذلك الآن، وقد أصبحت تبتعد عن سوريا وتطلب الاقتراب من مصر. وتجديد تهريب السلاح من ايران الى القطاع وتوثيق العلاقات بينها وبين حماس والمنظمات الاخرى قد تتلقاه مصر والرأي العام العربي السني والحكومات الغربية التي قد نددت بايران لأنها أسهمت في نشوء الازمة الاخيرة، بصورة سلبية.

       آثار للمستقبل

          ينبغي ان نؤكد ان تحليل الميزان العسكري المذكور آنفا ليس هو بالضرورة التحليل الذي تقوم به حماس لنفسها على أثر انتهاء القتال. يمكن ان نفترض ان خلاصة الميزان في نظر حماس أكثر ايجابية وأنها تؤكد ثباتها في المواجهة العسكرية برغم الخسائر، واثبات تهديد القذائف الصاروخية لتل ابيب، وقدرة النظام الصاروخي على البقاء والتأييد الذي حظيت به من سكان القطاع وانجازاتها السياسية. فاذا قدّرت حماس حقا أنها خرجت من المواجهة العسكرية ويدها هي العليا فقد تخلص الى استنتاج أنها تملك حرية عمل للاستمرار في مواجهة اسرائيل اذا رأت حاجة لذلك.

          قد قلنا من قبل ان تحليل انجازات الطرفين وحدودهما هو بمنزلة ميزان مرحلي قد يتغير في المستقبل. والسؤال الرئيس في هذه المرحلة هو أي تسوية سيتم احرازها بين الطرفين وهل ستُحرز تسوية أصلا؟ من الواضح ان حماس ستبذل جهدا كبيرا كما وعدت كي تلغي واحدا من انجازات اسرائيل الرئيسة وتعيد بناء نظامها الصاروخي، وبهذا تبني من جديد ايضا العنصر الرئيس في قدرتها على ردع اسرائيل. فاذا كانت هذه سياستها حقا فلن يكون من الممكن الاتفاق على عناصر تسوية مستقرة بين الطرفين.

          اذا تم احراز اتفاق تسوية بين الطرفين ايضا فسيثير سؤالين ثقيلي الوزن على الأقل:

$1·       أي اجهزة رقابة ناجعة يمكن بناؤها لمنع استمرار تهريب السلاح الى القطاع؟ هل ستكون مصر مستعدة وقادرة على منع التهريب وهو شيء لم ينجح فيه حتى نظام مبارك؟.

$1·       هل ستكون حماس مستعدة للحفاظ على وضع تهدئة زمنا طويلا؟ واذا كان الامر كذلك فهل ستكون مستعدة وقادرة على مواجهة المنظمات الصغيرة في القطاع وفرض هدنة طويلة عليها؟.

لا يوجد في هذه المرحلة جواب مُرضٍ عن هذين السؤالين ومن المنطقي ان نفترض ان تفضل حماس في الفترة القريبة على الأقل ان تحافظ على الهدوء من جهتها وسيسهم في ذلك عدة اسباب: فسيكون للضربة العسكرية التي تلقتها حماس معنى ردعي مهم بسبب الخسائر والاضرار التي وقعت بالبنية التحتية العسكرية ولأن اسرائيل أثبتت أن لها قدرة اصابة كبيرة في نطاق مجال عمل سياسي لا يستهان به في حين ما تملك حماس تأييدا عمليا من الخارج في اثناء العملية؛ ومن المنطقي ان نفترض ان يكون لمصر قدر من التأثير الرادع في حماس، واذا كانت اسرائيل مستعدة لمنح حماس تخفيفات من حصار القطاع فستكون مهتمة بالحفاظ عليها. ستحتاج قيادة حماس ايضا الى محاسبة نفسها بعد عمليتين عسكريتين اسرائيليتين كبيرتين وما لا يحصى من العمليات العسكرية الضيقة، وان تسأل نفسها أهي مستعدة للاستمرار في قيادة القطاع وسكانه الى حياة معاناة وضائقة في المستقبل ايضا.

     بيد أنه يوجد عاملان قد يضعفان من اهتمام حماس المتوقع بالتزام الهدوء. الاول – كلما نجحت حماس والمنظمات الاخرى في اعادة بناء منظومة الصواريخ وتعزيز جانب الردع النابع منها نحو اسرائيل قد يغريها ان تتحرش باسرائيل مرة اخرى. والثاني – حماس بخلاف حزب الله في لبنان غير قادرة على تجاهل وزن المنظمات الاخرى في القطاع، هذا الى ان من المنطق ان نفترض ان "تتدخل" ايران في القطاع معتمدة على علاقتها بـ "الجهاد الاسلامي" وتعلق حماس المتزايد بالمساعدة العسكرية والمالية التي تعد بها وان تحاول دفعهما الى التطرف. اذا كانت حماس معنية حقا بهدوء لمدة طويلة فربما تستطيع ان تفرض ارادتها على المنظمات الصغيرة. لكن هذا غير مضمون وسيظل احتمال التدهور من جديد موجودا في المستقبل ايضا. وتتصل هذه الاسئلة بسؤال أكثر عمومية وهو – هل أحرزت اسرائيل أهداف عملية "عمود السحاب"؟. كانت أهداف العملية عند اسرائيل هي: تعزيز قدرتها على ردع حماس والمنظمات الاخرى في القطاع؛ والقضاء على منظومة الصواريخ البعيدة المدى والمس بمنظومة الصواريخ القصيرة المدى، واحراز مدة طويلة نسبيا من الهدوء لسكان الجنوب. وما يزال من السابق لأوانه ان نجيب عن هذا السؤال جوابا واضحا لأن نتائج العملية السياسية لم تستكمل بعد ولأن حماس ستحتاج ايضا الى وقت لتستنتج استنتاجاتها من الواقعة. ويمكن في هذه المرحلة ان نقترح استنتاجين: الاول – يبدو ان النتائج العسكرية للعملية أحدثت شروطا تجعل حماس تهتم أكثر بالحفاظ على الهدوء بسبب الضربة العسكرية التي تلقتها وبسبب التدخل المصري في جهد منع تدهور آخر للاوضاع. والثاني – حتى لو كانت العملية عززت قدرة اسرائيل على ردع حماس، فليس من الواضح كم من الوقت سيستمر الهدوء لأن نتائج العملية لم تستقر بعد وتوجد شروط قد تفضي الى تدهور من جديد.

*  *  *



* تقدير استراتيجي، المجلد 15، العدد 3 – تشرين الاول 2012.

* تقدير استراتيجي، المجلد 15، العدد 3 – تشرين الاول 2012.

* تقدير استراتيجي، المجلد 15، العدد 3 – تشرين الاول 2012.

* تقدير استراتيجي، المجلد 15، العدد 3 – تشرين الاول 2012.

* مذكرة 123 – معهد بحوث الامن القومي، تشرين الثاني 2012.