Al-Masdar One

   

مقالات عطا القيمري

كتب بتاريخ: 6 /أيلول / 2006

 

 *  *  *

 

 

 

حماس بين الأمل وخيبة الأمل

 

بقلم: عطا القيمري

 

مر على تشكيل حماس الحكومة الفلسطينية إثر فوز الحركة الباهر في الانتخابات الفلسطينية، التي شهد العالم لها بالنزاهة، ستة أشهر ونيف. ومع ذلك تبدو هذه الحكومة مأزومة حتى قبل أن تنشأ وذلك لاسباب تتعلق بما تعرضت له من ضغوط خارجية، ولكن في نهاية المطاف، لاسباب تتعلق بها ذاتها، إذ لم تتمكن من الاقلاع لتثبيت شرعيتها وصلاحيتها وجدواها في انجاز ما وضعته حركة حماس لنفسها من أهداف دعتها الى المشاركة في الانتخابات وقطف ثمارها في ختامها.

 

لقد استقبل الشعب الفلسطيني فوز حماس في الانتخابات، بما في ذلك حماس نفسها بكثير من المفاجأة، وقد ساهم في ذلك الفشل الذي وقعت فيه كل مراكز استطلاع الرأي التي تنبأت لها بقوة معتَبرة في أقصى الأحوال. وفضلا عن المفاجأة فقد غلب على الاستقبال لهذا الفوز الكثير من الأمل في التغيير والاصلاح الذي كان هو أصلا أسم قائمة الحركة وهدفها. كما غلب عليه الفرح بالعرس الديمقراطي الذي شهده الشعب الفلسطيني والاستبشار بالخير في أننا مقدمون على مرحلة جديدة تخرجنا من المأزق الذي علقت فيه القضية الفلسطينية من حيث وجود قوى فاعلة ومسلحة خارج نطاق الشرعية الفلسطينية، ستصبح من الآن فصاعدا جزءا من هذه الشرعية، فتتضافر القوى في رزمة واحدة، كل الأمل في أن تقوى على الاقلاع بالقضية الفلسطينية نحو شاطيء من الأمان.

 

وقد كان لاستبشار الخير في فوز حماس والأمل في أن يؤدي هذا الفوز الى نصرة الشعب الفلسطيني وقضيته أساس سياسي واجتماعي متين. وغطت مساحة هذا الاستبشار بالخير كل الطيف السياسي، بما في ذلك حتى حركة فتح المنافسة الرئيسة لحماس والخاسرة الأكبر في الانتخابات. ورغم بعض ظواهر الامتناع عن التعاون، وتوقع الفشل بل والرغبة فيه من جانب حركة فتح، إلا أنه يمكن القول أن الحركة أبدت مسؤولية عالية من حيث التسليم السلمي لزمام الحكم والقبول لنتائج الانتخابات بأكثر ما يمكن من رحابة صدر، حتى كاد رئيس فتح، الرئيس الفلسطيني يغدو المدافع الأول عن حق حماس في تشكيل الحكومة والدعوة ليل نهار لاعطاء الحركة كل الفرصة للنجاح.

 

غير أن الأساس السياسي والاجتماعي المتين للأمل في حركة حماس هو ما أبدته هذه الحركة في تاريخها القصير من قدرات هائلة على المرونة والتكيف السياسيين والابداع التكتيكي والقدرة على الصمود في كافة الظروف حتى بعد ان اغتالت اسرائيل معظم صفها القيادي الأول. وفضلا عما أبدته الحركة في تاريخها من مزايا القدرة على البقاء، كحركة شابة ناهضة تملك القدرة على القراءة السياسية السليمة فتهجم عندما يتعين عليها أن تهجم وتتراجع وتتوقف عندما يصبح لازما أن تفعل ذلك، فقد اتسمت هي كحركة، قياداتها وممثلوها واعضاؤها بكثير من النزاهة والنظافة والكفاءة، بحيث كانت بمعايير كثيرة تستحق ما نالته من فوز لثقة الجمهور الفلسطيني. ممثلو الحركة ومرشحوها كانوا على كفاءة عالية. حوالي ستين منهم حاصلون على لقب الدكتوراة، بتاريخ شخصي نظيف ومحترم اجتماعا. وبالقياس الى حركة فتح التي فشلت في أن تعرض قائمة ومرشحين مناسبين فقد كان من شبه الطبيعي أن تحظى حماس بأغلبية ساحقة. وكان الخلل فقط في عدم التيقظ لقوى الاستطلاعات في أن تستشرف هذه النتيجة المحتمة. كما أن حماس استطاعت أن تمسك بالحلقة الضعيفة وباليد التي توجع فتح. ألا وهي الإحساس الشعبي العالي بضرورة القضاء على ما عُرف عن السلطة وحزبها الحاكم من فساد. فأصبح التغيير حكم الساعة وأصبح الاصلاح ضرورة لا مفر منها ليس فقط على سبيل  النهوض الاجتماعي - الاقتصادي للوطن، بل والسياسي أيضا. إذ أن تكتيك فتح والسلطة في المناورة بين المفاوضات وكفاح الفوضى المنظمة التي سادت أثناء الانتفاضة قد فشل فشلا ذريعا في تحقيق ما كان يصبو اليه الشعب من أهداف حتى ولو بحدودها الدنيا.

 

وهكذا جاءت حماس الى الحكم محمولة على أكف من الأمل العظيم في الخلاص الوطني، السياسي، الاجتماعي والاقتصادي.

 

أما الآن وبعد ستة اشهر من تشكيل الحكومة فإننا نجد واقعا سياسيا، أمنيا، اجتماعيا واقتصاديا في غاية التردي. فالوطن ينقسم طولا وعرضا، جغرافيا، اجتماعيا، سياسيا وأمنيا. غزة هي غير الضفة، من كل النواحي. فتح من جهة وحماس من جهة اخرى. مرة أخرى نكرار مأساة م.ت.ف وأزمة الداخل والخارج، كل جهة تعتمد على مراكز قوى تدعمها. واحدة في الرئاسة والمنظمة واخرى في الحكومة. واحدة في بضعة أجهزة أمنية قديمة وأخرى في بضعة اجهزة أمنية جديدة ومتجددة. منظمات مسلحة ذات سيادة وصاحبة قرارات مستقلة في الحرب دون السلم. الانقطاع التام عن الماضي ودروسه وتكرار تجارب سابقة فشلت على نحو ذريع، والاستمرار في سياسات مقاومة ثبت عجزها ، انتهاكات اسرائيلية من قتل وتدمير على اساس يومي فيما تتهمش قضيتنا والعالم يغض النظر ولا يزال يتهمنا نحن بالارهاب لانتخابنا حركة حماس، فقر وبطالة، تعطيل للخدمات وانعدام لكل برنامج أو اجراءات لكل تنمية من أي نوع حتى في غزة بعد عام من الانسحاب الاسرائيلي، موظفو القطاع العام الذين يبلغ عددهم مائة وخمسة وستين ألفا، أو وصلوا الى هذا الرقم بعد ما أضافت اليه الحكومة برئاسة حماس من تعيينات، لا يتقاضون مرتباتهم منذ نصف عام، وتكتفي الحكومة بتنقيط السلف الشحيحة التي لا تفي بدون الحد الادنى من الاحتياجات الضرورية لهؤلاء الموظفين. والاقتصاد الذي يعتمد أساسا على الدعم الخارجي، يدور في حلقة الانهيار المتوالي. فالموظف الذي لا يقبض راتبه لن يشتري الخدمات والبضائع من التجار والموردين فتعم البطالة وينتشر العوز والفقر والشكوى، والفساد والجريمة والأفظع من كل ذلك، العنف الذي كثيرا ما يأخذ عناوين المقاومة والثورة وغيرها من قيم عظيمة تأخذ عندنا شكل المنافسة الفئوية الفصائلية الضيقة والعقيمة.

 

وبقدر الأمل تكون خيبة الأمل. فقد فشلت حماس حقيقة في تحقيق ذاتها أساسا. فإذا كان جوهر الحركة تحرريا سياسيا وطنيا، إصلاحيا إجتماعيا وإقتصاديا، تغييريا إداريا وسياسيا، فانها تكون بمعيار النتيجة قد فشلت في تحقيق هذا الجوهر في ضوء ما يعيشه الشعب الفلسطيني من واقع مرير على هذه الأصعدة كافة. يمكن بالطبع ايجاد المبررات لحماس. بل ويمكن تخفيف اللوم عنها واحالة بعضه الى الظروف، الضغوط، الاحتلال، المؤامرات وغيرها من الأسباب الموضوعية التي هي قائمة بالتأكيد. فالعالم في واقع الأمر لم يمنح حماس حتى ولو يوم واحد من الرحمة.

 

حتى قبل أن تشكل حماس حكومتها خرج العالم بشروطه القاسية قبل أن يمنحها ذرة من شرعية أو يعطيها اي فرصة. وكذا الحال أيضا في الداخل. فقد طولبت بأن تدفع الرواتب للموظفين حتى قبل أن تشكل الحكومة. وبقدرة قادر انبعثت منظمة التحرير الفلسطينية من قبرها بعد أن دفنوها ولم يُصلوا عليها ليصبح اعتراف حماس بهذه المنظمة شرطا داخليا يضاف الى الشروط الخارجية كي تحظى بالقبول الوطني والمشاركة من باقي الفصائل. وحتى الجبهة الشعبية التي هي حليف طبيعي لحماس وجدت نفسها خارج الحكومة لذات الاشتراط. وعليه،  فقد ولدت حكومة حماس في عُسر، وكذا المجلس التشريعي الذي نالت أغلبيته عانى لاسابيع طويلة من مناكفات سياسية بدت في غاية السريالية. هل شرعي ما أقدمت عليه حركة فتح قبل أداء اليمين للمجلس الجديد، وهل شرعي ما ألغته حماس بعد هذا الأداء من قرارات اتخذها نواب التشريعي السابق بأغلبيتهم الفتحاوية؟

 

 كل هذا صحيح. ولكن أين المرونة السياسية وأين الشبابية والابداع، وأين المسؤولية والطموح، وأين قدرات الصمود والبقاء وتحقيق الانجازات والصعود بالذات وبالشعب الى مزيد من الرقي والتحقق؟ هذه أسئلة مشروعة لحركة إدعت لزمن طويل الحق في القيادة وفي التمثيل، طالبت وكافحت من أجل التحرر والتحرير، رفعت لواء الاصلاح والتغيير. فلا يمكن قبول المعاذير بالقوى الخارجية الظالمة إلا من الفاشل. وفي هذا الشأن فانه لا يسع المرء إلا أن يقارن بين حماس وحزب الله. ألم يتكالب العالم بأسره ضد حزب الله. وماذا كانت النتيجة؟ هل يعتقد أحد أن مجرد الاسلحة التي اختزنها حزب الله هي التي أدت الى انتصاره، أو على أقل تقدير منعت هزيمته؟ أولم تكن المرونة السياسية والابداع الفكري، الصدق السياسي مع الذات ومع الآخرين، والايمان العميق والنزاهة المطلقة هي الأساس في مثل هذا النصر أو إنعدام الهزيمة؟ شيع حزب الله شهداءه في الجنوب بجنازات مَهيبة لم تطلق فيها رصاصة ولم يرَ فيها أحد قطعة سلاح. وبمواقف الحزب الحكيمة ازداد الحلفاء وتقلص الأعداء. وخرج السيد نصرالله بالثناء وعبارات الاحترام حتى تجاه الخصوم والأعداء. فلم يحاسب أحدا ولم يشتم أحدا وحتى وزيرة خارجية البلد العدو الاكبر له دعاها بالسيدة رايس. وفي صورة مقارنة محزنة بل ومخجلة نرى شهداءنا يُمتشقون من ثلاجات الموتى ليعرضوا على الشاشات، وفي الجنازات وغير الجنازات نرى الملثمين من كل نوع. وتطلق البنادق ما يجعل اكثر من نصر رصاصات في الهواء قد تصيب بل وأصابت أبرياء لا ذنب لهم.

 

مسألة أساس فشلت حماس في التعاطي معها هي مسألة الاعتراف باسرائيل. للوهلة الأولى يبدو موقف الحركة محقا جدا. فكيف تعترف الحركة باسرائيل بينما اسرائيل ليس فقط لا تعترف بها، بل ولا تعترف حتى بالشعب الفلسطيني وبحقوقه المشروعة. كما أن الحركة تساءلت وعن حق اين هي إسرائيل التي يراد منها الاعتراف بها. هل هي إسرائيل التي تحتل وتسيطر على كل فلسطين من البحر الى النهر مما يلغي الذات ومشروعيته. وأين هي الحدود التي يراد لحماس ان تعترف لاسرائيل بها. ولكن بعد الوهلة الأولى وبعد الحق في هذا الموقف، يأتي التفكير الاعمق. فمن الذي في واقع الامر يحتاج الى الاعتراف. هل هي اسرائيل التي تحظى بأكثر من اعتراف ودعم عالميين أم هي حماس التي تعد تنظيما ارهابيا لدى الكثير من الدول؟ واذا كانت حماس قد أعدت نفسها مسبقا للمساومة السياسية وذلك بقبولها التهدئة ودخولها الانتخابات لسلطة قامت على اساس الشرعية الدولية، وأبدت أكثر من ملاحظة وتلميح على أنها مستعدة لان تقبل في ظروف معينة بدولة في حدود العام 1967، فإن الانطباع هو ان المماحكة حول مسألة الاعتراف لا تستهدف عمليا غير نزع مزيد من الشروط لقاءه أو تحسين شروط التفاوض السياسي. ولكن حماس تصرفت في هذه المسألة وكأنها لا تعترف ليس لانها تريد تحسين شروط التفاوض بل لان مسعاها أصلا وهدفها العميق هو إبادة اسرائيل وشطبها عن الخريطة مما ضاعف الضغط عليها بدل تخفيفه دون أن تستطيع لا تحقيق الهدف الأكبر غير القائم، ولا الهدف الأصغر غير القائم هو الآخر لانها هي حماس لا تعتبر دوليا شريكا في أي مفاوضات يراد تحسين المواقع فيها. لقد جعلت حماس من مسألة الاعنراف مدخلا لشرعية الحصار عليها وعلى الشعب الفلسطيني.

 

وبصرف النظر عن كيفية التعاطي مع الشروط الدولية والمحلية التي فرضت على حماس والحكومة الفلسطينية التي شكلتها ولا تزال، فإن حزبا يقود حكومة لا تستطيع لا أن تحكم ولا أن تقاوم، لا أن تعترف وتتسخ بقذارة السياسة ولا أن تتنحى لتحتفظ بنقاوة المقاومة، يكون قد علق في أزمة لا يحسد عليها إن لم يكن قد باء بالفشل الذريع.

 

وهذه بطبيعة الحال ليست دعوة لحماس لان تعترف بإسرائيل. من حقها أن تحتفظ بموقفها إذا كان هذا هو موقفها. وسنؤدي جميعا لها التحية لقاء ذلك. ولكنها لا يمكنها أن تعتمر القبعة والكوفية معا. باختصار في هذه المسألة ما ظهر من حماس هو بالقطع انعدام تام للمرونة السياسية والابداع الفكري اللذين هما المقدمة الأولى لكل نجاح سياسي.

 

بقدر الأمل تكون خيبة الأمل. ولكن أولم يكن هذا الأمل مبالغا فيه أصلا. أولم تكن بوادر الفشل قائمة، حتى الى جانب تلك المظاهر التي بعثته أصلا، ولكن تغاضى القلب عنها وتسامح لشدة توقه للخلاص!؟ بالطبع. فإذا عدنا الى أدراجنا الى الوراء متسائلين عن أسباب الفشل، فإننا لا بد سنرى بوادره مسبقا. فما ألمّ بنا من مرض عضال يدعى الفئوية، الذي هو أساس فشلنا، كان قائما. فمن يفكر بطريقة فئوية لا يمكن له أن يصل الى انجاز وطني. أما من يفكر بوطنية فلا بد سيعود عليه هذا بمكاسب عامة وخاصة، وطنية وفئوية على حد سواء. اما نحن فنقلب الصورة رأسا على عقب ونبدأ من الآخر كي لا نصل إلى أي مكان.

 

         

 

القدس 6/9/2006

 

 

     انتهـى         *