Al-Masdar One

يديعوت – مقال - 20/9/2013

ضفة للايجار

بقلم: ناحوم برنياع

          (المضمون: لم يُفض اتفاق اوسلو الى تحسين واقع حياة الفلسطينيين في الضفة الغربية. هذا ما يعرضه كاتب التقرير من زيارة للمنطقة الصناعية في الخليل - المصدر).

          إن غدير الخليل واحد من أهم الغدران في البلاد. وبعد أن يجتاز الخط الاخضر يُبدل اسمه ليصبح غدير بئر السبع، وبعد ذلك في غربي المدينة يصبح غدير البشور الكبير وبعد ذلك الى الغرب غدير غزة الى أن يصب في البحر. وتخلى الفلسطينيون عن كل هذه الاسماء التاريخية. فهم يسمونه الغدير الابيض وليس هو ابيض لصفاء الماء أو نقاء النظر الطبيعي بل هو ابيض بسبب فتات الحجارة الذي يصب من مصانع الحجارة في المنطقة الصناعية في الخليل في الغدير مباشرة. وهم يُبعدون الفتات الابيض الى ضفتيه مرة بعد اخرى حينما يُسد الغدير ويهدد باغراق البلدات على طوله. وترتفع الأكوام ويزداد مساره ابيضاضا.

          زرت في يوم الاحد مع مجموعة من "اصدقاء الكرة الارضية"، وهي منظمة خضراء، زرت يطا وهي بلدة في جنوب جبل الخليل. وقد كان سكان يطا بحسب الاشاعات في ماضيهم البعيد يهودا. لكن هذا النسب لا يساعدهم كثيرا. إن مجرى النهر يكاد يلامس بيوتهم وتجري فيه مياه الصرف الصحي لمدينة الخليل: كل ما يوجد في مياه الصرف الصحي مضافا الى بقايا صناعية سامة، فهو بني في الداخل وابيض في أعلاه. ورائحة النتن بالقرب من الغدير لا تُطاق. وقف شخص محلي بالقرب منا في سيارته وقال: "إن هذه الرائحة ليست شيئا اذا قيست بالبعوض". واستعرضت البيئة: كروم الزيتون؛ وغراس التين ومنشأة كبيرة تضخ ماء الشرب الى سكان يطا والمحيط. إن كل كأس ماء يشربونها، وكل حبة زيتون يأكلونها تتغذى على مياه الصرف الصحي غير المُنقاة للخليل.

          وليسوا هم فقط لأن مياه الصرف الصحي للخليل لا تقف عند الخط الاخضر بل تُشرك في سخاء روائحها سكان بئر السبع ومنطقة البشور وسكان غزة. ونتنُها للشعبين تماما.

          إن الغدير الابيض، ما حدث فيه وما لم يحدث، هو مثال على اتفاق اوسلو بعد عشرين سنة من توقيعه. كنت أقف في المرج الجنوبي للبيت الابيض في 13 أيلول 1993. وكان يوما خريفيا رائعا وكانت الخطب احتفالية. وكانت مصافحة دراماتية. لا تفصل بين تلك المراسم وما حدث في الواقع عشرون سنة ميلادية بل عشرون سنة ضوئية. يجب أن نقول الحقيقة وهي أنهم لم يتمنوا هذا الولد ولم نتمنى هذا الولد.

          إن 172 مصنعا لقطع الحجارة الخليلية وتهيئتها تقع في المنطقة الصناعية في الخليل في جنوب المدينة. وقد قسّم اتفاق الخليل الذي وقع في ولاية نتنياهو الاولى المدينة الى قسمين. وبقيت المنطقة الصناعية تحت سيطرة عسكرية اسرائيلية لكنها سُلمت الى سيطرة مدنية فلسطينية. وهي في الواقع منطقة مشاع فالفلسطينيون لا يطبقون فيها قوانينهم واسرائيل لا تطبق قوانينها.

          بنت اسرائيل منشأة تنقية لماء الصرف الصحي للخليل في شوكات في داخل الخط الاخضر. وبُنيت على حساب اموال جبتها للجمارك الفلسطينية. وما كان يهم اسرائيل أن يتنفس السكان السُم على طول 22 كم في داخل الضفة، بل كان المستوطنون هم وحدهم الذين أثاروا اهتمام الحكومة: وقد جذب رئيس المجلس الاقليمي "هار حفرون"، تسفيكي بار – حي الخيوط الصحيحة وحصل من الادارة المدنية على منحة سخية كي يقضي على البعوض في مستوطناته.

          لكن المنشأة التي بنيناها على حساب فلسطين في داخل الارض الاسرائيلية لم تنجح، فقد زادت الكميات على قدرة الاستيعاب. وسدت نفاية الحجارة الآلات. وأُنفق في السنوات الاخيرة عليها مال بعد مال مع نتائج ضئيلة. وارتفع صراخ رؤساء السلطات في النقب ووعدت سلطة المياه بالتحسين. إن محاضر الجلسات موضوعة أمامي وهي مليئة بالوعود. يقول روبيك دانيلوفيتش، رئيس المجلس البلدية لبئر السبع، إنه لا يحدث شيء. وقال لي هذا الاسبوع: "الدولة مجرمة. يجب مهاجمة التلوث في الأصل". وهو يستعد لرفع دعوى الى المحكمة العليا. وفي مقابل ذلك يخطط المجلس البلدي لمد أنبوب ينقل ماء الصرف الصحي من جوانب المدينة الى الجانب الآخر حيث يصب في الغدير من جديد.

          جند باحثون عن الخير مختلفون في العالم أنفسهم لعلاج نفاية الحجارة الفلسطينية، وهذا ايضا مثال على اوسلو. فأنشأ الايطاليون منشأة تصفية ورتب الامريكيون منشأة إزالة بالقرب من يطا. وذهبت لزيارة منشأة التصفية الايطالية فوجدتها معطلة لأن صيانتها باهظة الكلفة ولماذا الدفع في وقت لا توجد فيه شرطة تطبق القانون. وأُغلقت منشأة الازالة. أما النفاية فيزيلونها الآن الى منشآت غير مرتبة خلافا للقانون.

          وليكن  جلد

          لم تبدُ "تامري"، وهو مصنع جلود عائلة الزعتري في سلسلة مبان مصنوعة من الاسمنت مكشوفة في أطراف المنطقة الصناعية في الخليل. وقبل أن نرى الجلود نشم الرائحة. فهي تأتي من كومة جلود شياه وأبقار وماعز جيء بها الى المصنع مباشرة. وفي كل ما يتعلق بالرائحة فان الشياه تغلب لأنها لا تُطاق.

          إن الآلات أساسية كما كانت في اسرائيل في خمسينيات القرن الماضي، فلا توجد أية آلات متقدمة. يُنقون الجلد أولا من الشعر وبعد ذلك يغسلونه وبعد ذلك ينقعونه في أحواض كبيرة في محلول مركز من 15 مادة كيميائية منها الكروم. ويُلين المحلول الجلد ويُعدة للدباغة. وحينما يخرج من الحوض يكون لونه أزرق سماوي فيصبغونه باللون الاسود صبغة أساسية. ويعلقونه ليجف ثم يصبغونه صبغا آخر يخرج بعده الى مصانع الأحذية في الخليل، ومن هناك الى حوانيت في شارع نفيه – شأنان في تل ابيب، وليس اليها فقط، بالطبع.

          في المصنع ثلاث طبقات. أما الارضية فمن اسمنت مكشوف وهي معوجة ومكسورة وتستنقع فيها مناقع ماء ملوث؛ والأدراج مضعضعة والدربزين يهتز. ويتم العمل دون خوذات ودون قفازات. إن اعضاء الكنيست الذين أجازوا منذ وقت ليس بعيدا قانونا يفرض على الضفة قانون مساواة النساء في العمل في اسرائيل، يعيشون في فيلم. وفي كل ما يتعلق بالامن وقوانين العمل تحققت رؤيا الدولتين، فالخليل تعيش في كوكب واسرائيل في آخر.

          إن عائلة الزعتري ذات نسل عريق. إن داود الزعتري إبن العائلة رئيس للمجلس البلدي في الخليل. وعمار الزعتري إبن عمه هو صاحب المصنع. وقد انشأ جده المصنع في 1912 في عهد الاتراك وورثه أبوه ويتلقانا عمار بملابس عمل عرفت ايام أفضل.

          للزعتري مشكلات كروم. إن الكروم معدن يؤدي دورا حيويا في عملية تليين الجلد. والمشكلة هي أنه يمكن أن يتحول في ظروف أكسدة ما الى الكروم 6 التي هي مادة تسبب السرطان.

          انشأت ذراع المساعدة الخارجية التابعة للادارة الامريكية في 1998 منشأة لتكرير الكروم. ويتم التكرير بمساعدة حامض الكبريتيك فهذا ما يفعلونه في العالم كله.

          في سنة 2000 بدأت انتفاضة. وفي 2005 بعد أن خفتت الانتفاضة تذكروا في جهاز الامن أن حامض الكبريتيك هو ما يسمى "مادة ثنائية" – أي مادة يمكن أن يُصنع بمساعدتها مواد متفجرة. وحُظر على المصنع أن يشتري المادة، لكن لا أحد فحص عن مقدار المادة الموجودة عند الزعتري في المخزن. "استمررنا على استعمال حامض الكبريتيك حتى 2007"، يقول الزعتري. "وحين ذاك نفدت المادة".

          ولما كان لا يستطيع التكرير فانه يصب الكروم في الغدير وهذا ما يفعله أصحاب مصانع الجلود الثلاثين كلهم في الخليل. وتجري المادة في الغدير الابيض الى داخل دولة اسرائيل. إن الشيء الذي يُضغب الزعتري هو ان الكروم الجديد يكلفه ثمنا باهظا، فهو يخسر بحسب حسابه 210 آلاف شيكل كل سنة.

          وعرفت جمعية أصدقاء الكرة الارضية بذلك. في تشرين الثاني الماضي توجه المدير العام الاسرائيلي للجمعية، جدعون برومبرغ الى الادارة المدنية وطلب أن تزن من جديد حظر ادخال حامض الكبريتيك. واقترح تركيب آلات تصوير ووسائل مراقبة اخرى لمنع استعمال معادٍ. ورفضت الادارة المدنية الاقتراح رفضا باتا. وفي رسالة في أيار 2012 طلبت الادارة الى الجمعية "أن تحرص على نقل ماء المجاري الخطير هذا الى رمات حوفيف وعدم التخلص منه بطريقة اخرى بأية حال من الاحوال". ودُهشوا في الجمعية: فليسوا هم الذين صبوا الكروم وليسوا هم الذين أهملوا الرقابة وليسوا هم العالقين في حرب الانتفاضة بعد ثماني سنوات من خفوتها التام.

          وجاءت الجمعية بخبير من الولايات المتحدة عرض على الزعتري أن يستعمل حامض آخر. وفشلت التجربة كما يزعم الزعتري.

          أولاد خريف 1993

          في منتصف مسيرة اوسلو أرادت اسرائيل الانفصال عن المشكلة الفلسطينية. ونجحت العملية بمعنى ما محدود جدا ومضلل: فقد محا أكثر الاسرائيليين الفلسطينيين من برنامج عملهم. يدخل ثلاثون ألف عامل فلسطيني الى اسرائيل في كل يوم بمقتضى القانون، ويوجد ثلاثون ألفا آخرون غير قانونيين. إنهم شفافون لا يراهم الاسرائيليون. ويعيش مئات آلاف الفلسطينيين في القدس. إنهم هم عمال البناء وغاسلو الأطباق والنادلون والتقنيون والعاملون في الكراجات وسائقو سيارات الأجرة ويجهد الاسرائيليون كي لا يروهم ايضا.

          ويبذل المستوطنون في الضفة أقصى ما يستطيعون لتجاهل جيرانهم. ليس من الصحيح أن نقول إنه لا يوجد تعاون: فالفلسطينيون يبنون بيوتهم ويُقاسمونهم الشوارع وعلاج جرحى حوادث الطرق والشراء المشترك في حوانيت رامي ليفي – ويشاركونهم احيانا في دفن مشترك لنفاية البناء في مواقع غير قانونية، ومسالخ سيارات تُسرق من اسرائيل وغير ذلك. وقد نشأ في الضفة جيل من الفلسطينيين كان الاسرائيليون الوحيدون الذين رأوهم جنودا أو مستوطنين. والاسرائيليون لا يأتون اليهم وهم لا يستطيعون المجيء اليهم. إن من ولدوا في فترة اوسلو في خريف 1993 أصبحوا اليوم في العشرينيات من أعمارهم. وعلى حسب تقديرات "أمان" و"الشباك" لا يوجد الآن إنذار ما يدل على أنهم متجهون الى تجديد العنف لكن هذه كانت ايضا تقديرات "الشباك" و"أمان" قبل الانتفاضة الاولى.

          يوجد اليوم في ظاهر الامر اتفاق عام على انشاء دولة اخرى فلسطينية بين الاردن والبحر. ويوجد تفاوض. ويضغط كيري. لكن لا يؤمن لا نتنياهو ولا أبو مازن ولا الرأي العام عن جانبي الجدار بأن هذا الاتفاق قابل للاحراز. إن الوحيدين الذين يؤمنون بأن القادة يريدون الاتفاق هم اولئك الذين يعارضونه، أعني اليمين في الجانب الاسرائيلي، وحماس والجهاد في الجانب الفلسطيني. فلو أن القصد في اوسلو كان الى الفصل بين الشعبين فان المستوطنين قد أحبطوا ذلك.

          يقولون إن نتنياهو مضى بعيدا جدا نحو احراز اتفاق. لكنه يرفض أن يُظهر خريطة ويرفض على قدر استطاعته النقاش في الحدود لكنه مستعد نفسيا للاكتفاء بالكتل الاستيطانية واخلاء 94 بؤرة استيطانية من اراضي يهودا والسامرة.

          ربما. إتجه رابين الى اوسلو مع شعور ثقيل مخالفا إرادته تقريبا. وكانت القرارات التي اتخذها صعبة عليه وكلفته حياته آخر الامر. والقرارات المطلوبة من نتنياهو أصعب. ونشك في أن يكون حلمه الأكبر أن يسير على أثر رابين.

          قلت لعمار الزعتري في الخليل: رأيتم الاتراك، ورأيتم البريطانيين ورأيتم الاردنيين والاسرائيليين. من اسوأ المحتلين؟.

          وفكر لحظة ثم قال: "الاسرائيليون والفلسطينيون معا". وهذه هي قصة اوسلو كلها.

*   *   *